
ما إن يُلمح لونه الأصفر قادمًا من بعيدٍ حتى يهرعُ إليه الصبية مسرعين غير آبهين بقطع شعوس أحذيتهم، أو ضياع فردة منها، المهم هو الصعود على متن هذا القادم بأي ثمنٍ، ومزاحمة النساء والأطفال، والظفر بمقعدٍ، أي مقعدٍ لا يهم.
«الباص الأصفر»؛ أو الحافلة المعروفة بنقل الطالبات، كانت في السنوات الماضية وسيلة نقل معازيم أهل العروس، أو أصحاب النذور إلى العيون المعروفة آنذاك؛ كعين الدالوة بالجش، والغميري بالعوامية، أو المساجد المشهورة؛ كمسجد الشيخ عقيل بحلة محيش، والشيخ عزيز بالبحاري، والخضر بالربيعية، والشيخ محمد بسنابس، وحمام أبو لوزة، وغيرها الكثير، كما تقول زهرة الدلي لـ«القطيف اليوم».
وتضيف «الدلي»: «يتفق أهل العروس أولًا مع صاحب حافلة كبيرة نوعًا ما على يومٍ وساعة محددة، ومكانًا حتى يقل معازيمهم إلى وجهتهم المخصصة، وكانت أجرة السائق آنذاك تقدر بـ 50 أو 40 ريالًا».
وتتابع: «ويتناقل نساء الحي خبر يوم «غسالة العروس» في المكان والساعة، وعادة ما يكون التجمع في فترة العصر، ويذهب الناس قبلها بوقتٍ قصير خشية الازدحام، وللظفر بمقعدٍ ما، وما إن تمتلئ الحافلة عن بكرة أبيها، يبدأ السائق بالسير، والغوص بإطاراتهِ في الطين بلا خوفٍ أو وجل، يجول بين مزارع النخيل، وبساتين الليمون، وتبدو الحافلة كأنها تستجيب لإيقاعات الطبول، والتصفيق المتناغم مع ترديدات الأناشيد وأهازيج العرس، التي لا تهدأ ولا تتوقف إلا بتوقف الحافلة أمام بوابة المكان المقصود».
وتواصل «الدلي» السرد: كنّا ننشد بشكلٍ متواصل بفرحٍ وسعادةٍ، وكأننا من أهل العروس أو النذر، حتى السائق خصصت له أهازيج لتسليته منها:
سواقنا يا أبو الورد
ساعة يودينا ويرد..
اقتحام الحافلة
«محمد الشويخات» الذي لديه في جعبته الكثير من ذكريات طفولته الطريفة مع رحلة «الباص الأصفر»، يقول لـ«القطيف اليوم»: «كنّا نخرج بانتظار الحافلة غير آبهين بحساسية وجودنا بين النسوة والفتيات اليافعات، كل همنا هو رفقتهنّ للمكان الذي ستستقر فيه عجلات الحافلة، وفعلًا نجحتُ في أغلب الأوقات في صعود الحافلة، والاختباء تحت المقاعد خوفًا من إجباري على النزول شأني شأن بقية الصبية، لكن في مرات كانت تدسني سيدة تحت عباءتها حتى لا يخرجنني النسوة، إلى أن يبدأ السائق بالحركة والابتعاد، تبدأ رؤوس الصبية بالخروج من تحت المقاعد مطمئنين».
ويلفت إلى أنه كان هناك إصرار عجيب من الصبية على صعود الحافلة رغم التحذيرات التي تطلقها النساء وتخويفهم لكن لا أحد يبالي بذلك، بل كانوا يصعدون من النوافذ إذا كانت مفتوحة أو يتسلقون الحافلة من الخلف «كانوا يقتحمونها عنوة».
ويرى «الشويخات» أن هذه الرحلة كانت متنفسًا للصبية، وبمثابة “كشتة جماعية»، ومجانية، وكان البعض لا يخرج من بلدته إلا مع هذه المناسبات، فكانت فرصة للتعرف على بلدات أخرى، وأُناس آخرين بلهجاتٍ مختلفة، وأماكن جديدة.
ويواصل: «على الرغم من أن النسوة كن قاسيات نوعًا ما معنا ونحن نصعد الحافلة، لكنهنّ كنّ أكثر حنانًا عندما يبدأ توزيع الطعام، ويحرصنّ على أن يكون لنا نصيب منه، كما كنّ حريصات على سلامتنا وتواجدنا مع أفراد الجماعة، وإن تخلف أحد منّا عن ركوب الحافلة ذهبنّ للبحث عنه».
ويضيف: «ما إن تبدأ الشمسُ في الغروب، تعود الحافلة إلى مكانها الذي أقلت فيه النسوة والأطفال، وتستمر الأناشيد حتى توقف الحافلة، وأغلب هذه الأناشيد تحمد الله على سلامة الوصول، وانتهاء الرحلة».
اندثار
وتشير زهرة الدلي إلى أن مظاهر هذه العادة بدأت في الاختفاء يوم نضبت العيون، وبدأ الكثير من الناس التخلى عن يوم «غسالة العروس»، واستبدلت بحمامات حديثة، ولم يبقَ منها سوى الذكريات.