في الوسط

الستينات والسبعينات في المقهى على صوتِ ناظم الغزالي ينساب مثل الماءِ الدافئ في الشتاءِ البارد من المذياعِ الرمادي الكبير، مع كأسٍ من الماءِ وفنجان من القهوة وآخر من الشاي، يغني بعضًا من شعرِ المستنجد بالله العباسي، قبل أن يراه الناسُ في التلفازِ الأبيضِ والأسود، في ربطةِ عنقٍ سوداءَ وقميصٍ أبيض ومعطفٍ رمادي، مقاعدَ مرتفعة من الخشبِ أو حبالِ النخيل المجدول تتدلى منها أرجلُ الرجالِ حفاةً جالسين يسمعون:

عيرتني بالشيبِ وهو وقارُ
ليتها عيرت بما هو عــــارُ
إن تكن شابت الذوائبُ مني
فاللـيالـي تـزينـها الأقمـارُ
دموعي بيوم فقدِ الولف ليلى
وردت عيني يمرها النوم ليله
تعيرني عجب بالشيب ليلــى
وأخيرَ اثنيننا نشيبْ سويــــه

وفي الحسينية قبل طلوع الشمس يتدفق الحزنُ مع الملا يرثي الحسين (ع) في قصيدةِ السيد رضا الهندي التي كانت بوابةَ الخطابة والنعي، على كل من يريد صعود الأعواد أن يحفظها. يرتقي الملا درجاتِ المنبر في جبةِ صوفٍ دكناءَ أو صايةٍ تحتها الأبيض. فنجانٌ من القهوةِ السوداء ومزة من النارجيلة دون ثمن:
أوَ بعدما ابيضَّ القذالُ وشابـا
أصبو لوصلِ الغيدِ أو أتصابـي
هبني صبوتُ فمن يعيدُ غوانياً
يحسبنَ بازيَّ المشيب ِ غرابـا
قد كان يهديهنّ ليـل شبيبتـي
فضللنَ حين رأين فيه شهـابـا

كانت في الوسطية بين اليمينِ واليسار في الحالتين التذمر من الشيبِ والتأنيث والغزل في الشعر وانسياب الدموع. سافرتُ مع صديقٍ لي منذ مدة ورأى صورةَ امرأةٍ لم يبدو منها شيء في الجريدة فقال: إنها تأخذ إلى اليمينِ كثيرًا. أحببتُ أن أعرف معنى الوسطية؛ قلت له: هل الوسطية أن يشغل الإنسان حيز الوسطِ بين هذا وذاك؟ قال: نعم، يتوسط الإنسان نقطةً ليست لليمينِ كثيرًا وليست لليسارِ كثيرًا. قلت له: إذًا ماذا ترى في الأعرج؟ هي حالة بين من يملك رِجلين وبين الكسيح وماذا ترى الأعور؟ هي حالة وسطٍ بين الأعمى وبين من يرى بكلتا عينيه! لم أكن جادًا في مسألتي ولزمنا الصمت بعدها.

يرجع أصل مصطلح اليمين واليسار إلى الثورةِ الفرنسية وترتيباتِ الجلوس التي اتبعها الأرستقراطيونَ والراديكاليونَ في الاجتماعِ الأول لمجلسِ الطبقات عام 1789م إذ جلس المحافظون على اليمين ومحبو التغيير على اليسار. لكن الاستخدامات الأكثر اتساعًا للمصطلحين تكشف عن قيمتهما العامة في تعيينِ المواقف السياسية والأيديولوجية. أما الله فيعرفها: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾.

ليست الوسطية الوقوف في منتصف المسافة ولكنها ارتقاء جبال الأفضلية والخيار الأجود للنظر إلى باقي الأمم ونكون شهداءَ عليهم إذ أنَّ الشهادةَ تفرض الموقعَ المتميز للشاهدِ ‏على المشهود عليه!

أين نحن الآن؟


error: المحتوي محمي