عندما تنتهي معاركُ الحياةِ ويرويها التاريخُ تصبح لها جنبتانْ؛ واحدةٌ من المنتصرِ وأخرى من الخاسر وما لم يكن هناك شهودٌ فالتاريخُ يجري مثل السوائلِ في الأواني المستطرقة، يستطرقهُ طرفا الحكايةِ كما يشاءون.
كتابُ كليلة ودمنة نارٌ على علم بكل اللغات، ألفه الحكيمُ الهندي (بيدبا) لملكِ الهند (دبشليم)، واستخدمَ المؤلفُ الحيواناتِ والطيورَ شخصياتٍ رئيسية في الكتابِ ترمز فيه إلى شخصياتٍ بشرية وتتضمن القصصَ وعدةَ مواضيع؛ٍ من أبرزها العلاقةَ بين الحاكمِ والمحكوم، وعددًا من الحِكم والمواعظ. حينما علم كسرى فارس (أنوشيروان) بأمرِ الكتابِ وما يحتويه من المواعظ أرسل الطبيبَ (برزويه) إلى بلادِ الهند ونسخ ما جاء في ذلك الكتاب ونقله إلى الفهلوية الفارسية، ثم نقل الكتاب إلى العربية عبدالله بن المقفع.
في الكتابِ خمسةَ عشرَ بابًا رئيسية تضم العديد من القصصِ التي أبطالها من الحيواناتِ ومن أبرز شخصياتِ الحيوانات التي يتضمّنها الكتاب؛ الأسد الذي يلعب دور الملك، وخادمه الثور الذي يُدعى (شتربه)، واثنان من ابن آوى وهما (كليلة) و(دمنة). كما يتضمن أربعة أبواب أخرى جاءت في أولى صفحات الكتاب.
قرأته عندما كنت صغيرًا ولم يدر بخلدي يومًا أن تأتيني بعض الحكم من الحيوانات السنورية لكن حين عملتُ في رأس تنورة عام 1985م مع مراقبٍ أمريكي عازب اسمه (ويليام مورجان) ويربي قطًا فارسيًا ذا فروٍ أنيق في بيته، كان كلما احتاج أن يشتري للقطِّ طعامًا من متجر الشركة سارني في أذني وقال: هيا نذهب نعتني بالقط. شابٌّ للتو التحقت بصفوف العمل، كانت الرحلة تسرني وتقوي علاقتي بالمراقب، ويليام.
مضت سنتانِ خلت أن علاقتي بالسنوريات انتهت ولكن في عام 1987م التحقتُ بالعمل في الظهران وكان المراقب العام (البرت شيزار) على وشك أن يتقاعد ولم يجد من يعتني بقطهِ المدلل. جاءت الفرصةُ الثانية أثمنَ من الأولى التي كان فيها طعام القط لكن هذه فيها القط. قلت له: قر عينًا، أنا أخلفك. أخذت القط ولم يعمر طويلًا بين قطط الحي التي لم ترحمه.
علاقاتنا، نحن البشر، تأتي في أشياءَ تبدو سخيفة لكنها معبرٌ إلى ما هو أفضل. عندما تطل لك الفرصةُ برأسها وتقول: ها أنا ذا، التقطها. بالرغم من أننا في الواقع ربما نحتاج أسدًا يصنع لنا الفرصةَ الكبرى، لا بأسَ بالفرصة الوسطى أو الصغرى فبدونها قد لا نحصل على شيءٍ البتة!
لو لم يكن لأعمالِ البشرِ دوافعَ تدفعهم نحو الخيرِ أو تبعدهم نحو الشر لناموا عنها ولم يفعلوا شيئًا منها، نخاف الله ونصلي، يبعث فينا الفقيرُ الشفقة، نذكر الشفقةَ التي نرجوها بعد نَعينا ونعطيه، حكمة الحياة تقول: لا بأس أن تكونَ المصالح مشتركة بين البشر في كل علاقاتهم!
الخيرُ خيرٌ وإنْ طالَ الزّمانُ بـهِ
والشّرُّ أخبثُ ما أوعيتَ من زادِ