همسة وعي

الوعي؛ تلك المفردة التي تتمحور على أساسها كل الرسالات السماوية، وتدور حول فلكها كل جهود الأنبياء والأئمة والمصلحين على مرِّ التاريخ، ومن خطبةٍ للإمام علي في نهج البلاغة يُبين فيها سبب بعثة الأنبياء، يقول: «فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ»؛ فواضحٌ جدًا أن إثارة دفائن العقول هي من أهم أسباب بعثة الأنبياء، وهي تعبيرٌ عن تعميق حالة الوعي في الناس.

وهنا أتساءل: هل حدثّت نفسك يومًا عمّا إذا كنت واعيًا أم لا؟
قد يبدو من هذا التساؤل التهكّم؛ ولكنّه نابعٌ من القلب، إذ ينبغي على كلِّ واحدٍ منّا أن يجلس مع نفسه في لحظة هدوء، ويسأل نفسه: هل أنا إنسانٌ واعٍ؟

وقبل خوض هذه التجربة التي ستعمل فرقًا كبيرًا في حياتك، وقد تمثّل منعطفًا تاريخيًا لك، لنقف قليلًا للحديث عن مفردة الوعي، ليكون هذا الحديث مفتاحًا لك لخوض غمار تجربةٍ حين تُعلن بدايتها فإنك لن تصل لنهايتها أبدًا؛ لأنها ستُرافقك في مسيرة حياتك حتى آخر لحظةٍ من عمرك.

يُمكننا تسليط الضوء على مفردة «الوعي» من خلال ثلاثة مراحل؛ وكل مرحلة تُعبّر عن مستوى من الوعي:

المرحلة الأولى: الحضور الذهني
فالوعي يأتي بمعنى الحضور الذهني، وهو بخلاف الشرود الذهني، لأنك حين تكون شارد الذهن يغيب وعيك، وبحضور الذهن يعود الوعي.

ولتقريب الصورة، أرأيت لو أنك تمر بتجربةٍ لأول مرةٍ في حياتك؟ مثلًا: قيادة السيّارة، فستُلاحظ أن ذهنك حاضرًا في كل لحظة، وأي غفلة منك قد تُؤدي إلى وقوع حادث.

إننا نعني بمرحلة الحضور الذهني هي تلك المرحلة التي تعيش فيها تأمّلًا دقيقًا، وفحصًا شاملًا لشخصيتك، إذ من خلالها يُمكنك أن تُعرّف عن نفسك تعريفًا دقيقًًا بما يرتبط بالأبعاد الأساسية لشخصيتك، والمتمثّلة في: الشكل والفكر والروح. وبذلك تكون صورتك الذاتية حاضرة أمامك وفي وعيك، وكلّما تعمّق حضور تلك الصورة في ذهنك أصبحت حاضرةً في لاوعيك أيضًا.

وهذه المرحلة أطلقتُ عليها مرحلة اكتشاف الْشِّفْرَة الذَّاتِيَّة لشخصيتك؛ والتي تُميّزك عن أي مخلوقٍ على وجه الأرض، إذ أن الله (سبحانه وتعالى) بحكمته وقدرته لم يخلق شخصين على وجه الأرض لهما نفس الْشِّفْرَة الذَّاتِيَّة؛ يقول تعالى: ﴿بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ [سورة القيامة، آية: 4].

والْشِّفْرَة الذَّاتِيَّة تمثّل النواة لشخصيتك، واكتشافك لها يؤهلك لاكتشاف الجوانب الأخرى في شخصيتك، أما جهلك بها فإنه يُقلل من عمق استثمارك للجوانب الأخرى التي تعرّفت عليها في شخصيتك.

كما أن اكتشافك للْشِّفْرَة الذَّاتِيَّة يؤهلك لمعرفة دورك في الحياة، فالله (سبحانه وتعالى) حين خلقك لم يكن ذلك عبثًا، وإنما كان لغايةٍ ساميةٍ، ودورٍ عظيمٍ أراده لك في الحياة، وعليك أن تكتشفه، وإلا فلن تتمكّن من تحقيق تلك الغاية التي من أجلها أوجدك الله (سبحانه وتعالى) في الحياة.

المرحلة الثانية: المعرفة الذاتية
هذه المرحلة تُمثّل مستوىً أرقى من الوعي، فحين تصل إليها فإنك ستُصبح ذا معرفةٍ أعمق بشخصيتك، سواءً بما يرتبط بالجوانب التي لا إرادة لك فيها، وهي تُمثّل ذاتك الحقيقة التي أراد الله سبحانه أن تكون عليها، وأيضاً بما يرتبط بالجوانب التي يُمكنك أن تتحكم فيها بل وتُغيّر من ظروفها، وهذه تُمثّل ذاتك المكتسبة.

ففي هذه المرحلة أنت أكثر وعيًا بذاتك، وأكثر قدرة على فهم واستيعاب طريقة استجابتك لكل ما يُحيط بك من حولك، بل إنك أكثر فهمًا لأقوالك وردود أفعالك.

وتكتسب هذه المرحلة أهمية بالغة انطلاقًا من الحديث الشريف عن الرسول الأعظم : «من عرف نفسه فقد عرف ربه». وليس أحدٌ مسؤول عن بلوغك هذه المرحلة إلا أنت، فكن أهلًا لذلك.

إن وصولك لمرحلة المعرفة الذاتية يعني أنك أصبحت إنسانًا واعيًا بذاتك، وفاهمًا لشخصيتك، وقادرًا على تمييز ردود أفعالك، كما أنك قادرٌ على إحداث أيَّ تغييرٍ في شخصيتك، مهما كان ذلك التغيير كبيرًا.

المرحلة الثالثة: المكاشفة الذاتية
وهي أرقى مرحلة من مراحل الوعي، ولا يصل إليها إلا من امتلك زمام نفسه، واستطاع أن يتحكم بذاته.

والمكاشفة الذاتية: هي ملكةٌ تؤهلك لرؤية صورتك الحقيقية ماثلةٌ أمام ناظريك، في جميع أقوالك وأفعالك، فكلّ حديثٍ تنطق به، وكلّ سلوكٍ تمارسه، سواءً كنت بمفردك أو بين الآخرين، فإنك تُدرك الغاية الحقيقية منه، وتُكاشف ذاتك بذلك، فأنت وذاتك تمامًا كما أنك تقف أمام المرآة.

وهنا تأتي الأحاديث والروايات الشريفة لتدعوا الإنسان بأن يقف محاسبًا نفسه، ومكاشفًا ذاته، كي يحظى برحمة الله تعالى ولطفه وعظيم مغفرته، ولذا ورد عن الرسول الأعظم أنه قال: «لا يكون العبد مؤمنًا حتى يحاسب نفسه أشدَّ من محاسبة الشريك شريكه والسيد عبده».

ولا يُشترط لتحقيق ملكة المكاشفة الذاتية أن يكون الإنسان مؤمنًا حقّ الإيمان، ولكن الإيمان الحقيقي من شأنه أن يُعزز هذه الملكة، ويُعطيها جانبًا مشرقًا، وأيضًا يكون الإنسان محفوفًا بعين الله تعالى. كما أن المكاشفة الذاتية دليل على صدق الإيمان، وتحقيق العبودية لله تعالى.

وعلى ذلك فإنه بإمكانك الآن أن تخوض التجربة، وتبدأ رحلة الاكتشاف الكبرى لذاتك، وكن على يقين من أنك بين حينٍ وآخر ستكتشف نفسك أكثر، وكل ما عليك فعله هو أن تُضيف معرفتك الجديدة للمعرفة السابقة، وكن على الدوام في حالة فحصٍ وتأملٍ لذاتك لترتقي وعيًا وتُحقق بذلك هدف وجودك في الحياة، وتستحق أن تكون خليفة الله (سبحانه وتعالى) في الأرض.


error: المحتوي محمي