عبق من معارف الإمام العسكري (ع)

ورد عن الإمام الحسن العسكري (ع): “من كان الورع سجيّته والأفضال حليته، انتصر من أعدائه بحسن الثناء عليه” [بحار الأنوار – ج 69 ص 407].

قد يرد على الذهن أن مفهوم القوة والاقتدار الذي يحقق الغلبة على الأعداء هو امتلاك الجاه والسلطة والأعوان الذين يحيطونه بالمنعة والحصانة، ومن لا يمتلك هذه الأدوات المعلية لشأنه والصانعة لهيبته فإن الوهن حليفه ومرده إلى الانكسار والخيبة!

وآخر يرى وسيلة انتصاره وفرض هيبته بالتسلح بسلاطة اللسان وتوجيه الكلمات النارية المسيئة لمن واجهه بحوار أو موقف لا يستسيغه، فإن الآخرين يتجنبون هكذا شخصًا يتصف بالصعوبة في التعامل والاستهانة بالغير، ويشبع غروره وتعاليه أي موقف يمارس فيه أسلوبه البذيء في قبالة ترفع الغير عن هذه الأوساخ ومقابلته بمثل فعله المشين قيميًا.

الإمام العسكري (ع) يضع لنا منهجًا تربويًا سليمًا يقودنا نحو تكامل النفس وعلو شأن صاحبها، مع ما له من مردودات إيجابية تعود على علاقاتنا بالآخرين بالاستقرار والفاعلية، فحسن التعامل والخلق الجميل يزرع المحبة والاحترام وتقدير الغير لشخصيتك، لا لأجل سلطة يخافون فيها من سطوتك ولا مداراة لنزعة الشر والعدوان، بل لما تمتلكه من مقومات تسمو بك في فضاء المقبولية والجاذبية.

فأول مقومات وعوامل القوة المفضية إلى الانتصار والغلبة هو الورع، وهو ملكة الحصانة والمنعة أمام المغريات المزينة للشهوات والمنكرات، ولكن يا ترى: ما هي الصلة بين تقوى المرء وانتصاره على أعدائه؟

الاستجابة للمثيرات الشيطانية ونداءات المعاصي تجعل منه شخصًا تتحكم به الشهوات لا العقل الواعي، وبالتالي فإن السقوط في الخطايا والاستلذاذ بالنزوات يحيله إلى هيكل جسد نزعت منه حلاوة الروح وجمال الحضور في مواطن الحسن، ولتقريب الصورة فإن الخطايا تلوث النفس بالأوساخ وتنزع منها الصفاء تمامًا كما لو وقع في مستنقع الوحل أو القاذورات المادية، ثم أقبل على الناس والرائحة النتنة تعلق به ومنظره غير اللائق، ألا ينفر الناس منه ويستهينون به؟! كذلك من لا يملك إرادة تحد من سقطات الرذيلة تفوح منه رائحة الهوان والذل لرغباته، فكفى العدو منه أن يراه بهذا القبح.

وضعاف النفوس يسقطون بين سندان الترغيب ومطرقة الترهيب، فلا طاقة لهم بالإباء والرفض أمام مغريات الشهوات والمال، تشترى ذممهم بعد أن فقدوا عزتهم، فقيمتهم عند أعدائهم ليست بأكثر من حفنة مال وهؤلاء عبيد الدنيا وعشاقها.

وأما مطرقة الوعيد لمن يقف بوجه الفساد، وضعاف النفوس الذين تكبلهم أغلال الجبن فيتهاوون أمام ذلك ظنًا منهم أن التداري عن تسجيل أي موقف يحميهم ويحفظ مصالحهم، فبئس النفوس الذليلة التي تشابه بهيمة الأنعام فيكفيها من الراعي التلويح بعصاه.

وثاني عوامل القوة والانتصار هو التحلي بالفضائل ومكارم الأخلاق والأفعال الحسنة، فإنها تجلب المحبة وتسود المرء في المجتمع وتحيطه بهالة الاحترام والتبجيل، ولكن: ما علاقة الخلق الرفيع بالانتصار على الأعداء والحساد وهم يضمرون له الشر؟!

النتيجة المشرفة والشهادة له بالفضيلة فهي مما يجريه (سبحانه وتعالى) على لسان حساده، و إن كانوا يعادونه فهم لا ينكرون مكانته فالفضل ما شهد به الأعداء، فهذه سيرة العظماء يسجلها التاريخ في بعض جوانبها المشرقة بشهادات من عادوهم.

والجانب الآخر هو أن مواجهة الإساءة بالحلم والحكمة والتسامح وتجنب اللغو معه، ينزع بذرة الشر منهم ويدفعهم نحو إطفاء نار العداوة تجاهه.


error: المحتوي محمي