عرف قدماءُ العربِ كثيرًا من الفصاحةِ وقليلًا من الفهاهة والعي. كان بيتًا من الشعرِ يثير حربًا أو يملأ فمَ قائله جواهر وذهبًا. ما قالوا من الحكم والاجتماعيات يصح في كل زمان:
لا أعرفنك بعدَ الموتِ تندبني
وفي حياتيَ ما زودتني زادي
نعيشُ في مجتمعاتٍ وتأخذنا فيها أسرابُ الساعاتِ بعيدًا عن الوصال، شأننا شأن كل المجتمعاتِ التي انتقلت من حالةِ مغلقةٍ إلى الانفتاحِ على الدنيا. في سني الصغر يبدو اليومُ طويلًا والليل أطول، لا ندري ماذا نصنع في أربعة وعشرين ساعة! نكبر وتكبر معنا دائرةُ الاهتمامات فلا تكفينا الأربعة وعشرون ساعة لإتمامِ جزءٍ من مهام اليوم. يأتي الليلُ وننام بانتظارِ اليوم التالي، الكل يريدُ جزءًا من وقتنا، الدراسة والعمل والصغار والزوج والرب والمجتمع بكليته وإلا أصبحت في دائرة النسيان!
يموتُ كثيرٌ من الناس، يبكيهم من لم يعرفوه يومَ كان حيًا ولم يسندوهُ حينما احتاج سندًا وكتفًا يبكي عليها. لو كان الميتُ حيًا لقال لكثيرٍ منهم: لا تتعب نفسك، كفكف دموعك، أنا وأنت لم نلتق منذ سنين. في خط العلاقاتِ هناك نقطة “الصفر” ليس فيها حب أو عداوة. ما فوق النقطة خانةُ الحب وما دونها الهجر والقلى والبغض.
يعذر الناس والأيام ويصفحونَ لمن أبقى الصحبةَ فوق نقطة الصفر وما قاله العربي عبيد بن الأبرص كان يشكو هم القطيعة والهجر وسلب الحقوق:
هل نحن إلا كأرواحٍٍٍٍ تـمـر بهـــا
تحـت التـرابِ وأجـسادًا كـأجـسـاد
فإن رأيتَ بوادٍ حية ذكــــــرًا
فامـض ودعني أمارس حيةَ الـوادي
لا أعرفنكَ بعدَ الموتِ تندبنـي
وفـي حـيـاتيَ مـا زودتـنـي زادي
فإن حييتُ فلا أحسبكَ في بلـدي
وإن مـرضـتُ فلا أحـسـبكَ عــوادي
المشكلة في الموت أنه لا يحل المشاكل ويحيلها لقاضي القضاة ولا يكفي أن نصطفَ عشرات في جنازةِ شخصٍ نسأل الواقف عن يميننا هل عندك صورة له؟ يمكننا الكلام في الدنيا ولو بعدنا آلافَ الأميالِ وليس لنا إلا الصمت عندما نكون أجسادًا تحت الثرى:
ولو أنا إذا متنا تُركنا
لكانَ المَوْتُ راحَة َ كُلِّ حـَيِّ
ولكـنا إذا متنا بُعثـنا
ونُسأل في غدٍ عن كُلِّ شيِ
أوديةُ النسيانِ والصد تمنع البشرَ أن تسمعَ أصواتَ من تحب وإذا صعدت جبلَ التذكر وأطلت عليهم بمناظير وعيون المحبة رأتهم أجسادًا وأرواحًا، لمَ لا نصعد الجبل ونستكشف!