الفرد والمجتمع

يتداول الوسط الاجتماعي، بالذات المجالس الشعبية، عبارات “فلان كافي شرَه وخيرَه، فلان لا له ولا عليه، ما بقلبه على لسانه”، أو يقول أحدهم: “مالي والناس وإذا متُ أدفن”، الغرض تبرير بُعدهم عن المجتمع، من يراها، نِعم الصفات، مؤمن، بريء، جريء، لا ينافق.

كلمات مفاهيمها خاطئة، يرونها مدحًا، وهي ليست كذلك، نحجّم أنفسنا ونقلل من قيمنا، ونفتح بابًا للاستهزاء والنيل من عقولنا، لكل منا بداخله ثروة يملك ما يشارك به في المجتمع، ولكن البعض يكتفي بما يضره عما ينفعه ظنًا بصحته، كافٍ شره، شيء طيب وما أحسنه، نعم هذا مدحٌ لا يختلف عليه اثنان، ولكن كافٍ خيره لماذا؟ وعنده من الخير ما يقدمه، لا أدري أهو شحٌ منه أو لا يعلم به.

ليس كما يظن البعض من لا يملك مالًا لا يقدم، عندك ما هو أغلى من المال باستطاعتك تقديمه، وأحيانًا يحل ما يعجز المال عن حله، يزيد ولا ينقص كالمال، الأخلاق والكلمُ الطيب، قلمك ولسانك إن كنت متمكنًا، وخبرة الحياة، رأس مال بدون دفع مال، أو بذل جهد يُعجز، بل وتفضله، المال تُحاسب عليه، وهذه تُحسب لك، إذا كان البعض يحترم رجل المال، الكل يحترم الأخلاق والإخلاص للمجتمع، إلا من أخطأ التقدير.

بأخلاقك، بكلمة طيبة، تصلح بين متخاصمين، تنهي خلافًا، تجمع بين رحمين متباعدين، تخمد حربًا مشتعلة، بابتسامة تدخل سُرورًا إلى قلب مؤمن، بخبرتك الوظيفية توضح إجراءات إدارتك للمجتمع، وما هي المتطلبات اللازمة عليهم عند مراجعتها، أو لمن سألك، وتسهل أمورهم، بقلمك تفتح طرقًا وتصلح أخرى يسلكها مجتمعك.

الحياة مدرسة افتح منها فصولًا للآخرين، تزداد شرفًا ووقارًا في قومك، لماذا تحجب خيرك هذا؟ الكلمة والأعمال والخدمات الطيبة تؤتي ثمارها، إن عاجلًا أو آجلًا، ولا أحسن وصفًا للكلمة الطيبة من قوله تعالى {ألم ترى كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبةً كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء-٢٤ سورة إبراهيم}.

لما استشار نبي الله يونس عليه السلام، عالِمًا وعابدًا هل يدعو على قومه أم لا؟ أشار عليه العالم “لا يدعو” كلمة طيبة، وأشار عليه العابد “يدعو” كلمة كادت أن تُهلك يونسِ وقومَه، فأخد بمشورة العابد، ولكن العالم تابع مع القوم وطلب منهم أن يتضرعوا بالدعاء لله بطيب الكلام، فكشف الله عنهم العذاب.

ومن باب ذكر النبي يونس “عليه السلام”، يُروى (والله أعلم)، لما التقمه الحوت، كان في بطنه يطوف به ظلمات البحار ويونس يسبح الله، مر قرب قارون المخسوف به (قارون في برزخه) فسمعه، وتكرمًا من الله تعالى سُمح لقارون بالتحدث إلى يونس، فكان مما سأله عن أرحامه من بني إسرائيل ويونس يخبره، أخيرًا قال (أي قارون): “واأسفاه على آل عمران”، يُقال إن الله تعالى بهذه الكلمة الطيبة “توجع” قارون على أرحامه رُفع عنه العذاب إلى يوم القيامة.

نبي الله يونس أنجاه الله من بطن الحوت لقوله الكلم ألطيب، التسبيح، لا له ولا عليه، هذه كلمة، تُبقِي من تعنيه من الصاغرين المستضعفين، أنت جزءٌ من المجتمع الكبير، ولا يمكنك العيش بدونه، غير الإنسان من وحشٍ، ودابةٍ، وطيرٍ، تعيش أممًا لها نظام وحكومة، فكيف بالإنسان؟ أما قول ما بقلبه على لسانه، هذه ذم لا مدح، “لو تكاشفنا ما تدافنا”، لو تصْدق وتخرج كل ما في قلبك حتى الأقرب، زوجتك وأولادك هجروك ولا وفوا لك ولا بروك، فضلًا عن الأباعد.

مِن كمال عقل الإنسان المجاملة للتعايش، وعلينا أن لا نسيء فهمها، كما يحلو للبعض تسميتها نفاقًا. رُوي أن أحد المعصومين “عليهم السلام” قال: “للمجاملة ثلث العقل، فاستكثرها بعض من حضر، فرد عليه قائلًا: بل ثلثا العقل”، يا ترى هل يأمر المعصوم بنفاق؟ وعقلًا إخراج كل ما في القلب لا يخدم التآلف الاجتماعي، وقول “مالي والناس”، من تعني بالناس؟ هم المجتمع الذي أنت عضوٌ منه لو اشتكيت سُقمًا، تألمت أعضاؤه، وحقًا إذا مت تُدفن، ولكن فرق تُدفن حسرةً على فراقك، وتُدفن حتى لا يتأذوا بريحك النتن.

هذه كلمات وعبارات الحمقاء، ضعيفي الإيمان، ومن لا يرجو أجرًا وثوابًا، فاحذر أن تكون منهم، علينا جميعًا أن نعي ونستفيد من مخزوننا الأخلاقي، والطيب من كلامنا، وما يمكن أن يسطره يراعنا، وخبرة الحياة أنت غني بها، اهدها لمجتمعك، تكن سيدًا فيهم، أبو طالب بن عبد المطلب، لا مال له، ولكن بعقله وأخلاقه وطيبه وخدماته، ساد العرب، ولم يسدهم الوليد بن المغيرة مع كثرة أمواله، لا نترك ما نملك، ونجلس في بيوتنا ونقول مالنا والناس، بل نقولها وبصراحة كلنا للناس كلنا لمجتمعنا.


error: المحتوي محمي