من طرائفِ العقلِ والجنون

لا تعجل فلحاجةٍ في نفسِ يعقوبَ كتبتُ هذه الطرفةَ من الذكريات!
كانون الثاني، يناير 1980م، كنا مجموعةً من الشبابِ الطامحينَ الذين حصلوا على فرصةٍ للدراسةِ في مختلفِ جامعاتِ أمريكا. أنا لم يكن عندي سيارةً قبلَ ذاكَ الوقت وكأي شابٍ أحببتُ أن أمتلكَ واحدةً، أزهو بها وللتسوق. سألتُ جيبيَ المعدم كم تملك؟ فلم يكن به سوى ألفَ دولار أو “3500 ريال” في ذلك الزمان.

خرجتُ أنا وصديقي علي نمشي في الطريقِ المغطى بالثلوجِ وعندَ أولِ منعطفٍ صادفنا باكستانيًا يقودُ سيارة، كانت طويلةً وقديمة “دلتا 88”. بكم تبيع السيارة أيها الباكستاني؟ قالَ بألفِ دولار. نظرتُ إلى علي وقلنا له خذ هذهِ الألفَ دولار وهاتِ المفاتيح. لم تستغرق معاملة إنهاء شراء السيارة سوى دقائق. بقيتْ معضلةُ القيادة، كان الجو ممطرًا في كثيرِ من الأحيانِ والطريق زلقًا. ركبتُ السيارةَ وصعودًا على هذا الرصيفِ تارةً ونزولًا من ذاكَ الرصيفِ تارةً أخرى وفي ساعاتٍ اعتدل المقودُ وتمكنت من قيادةِ السيارة بشكلٍ معقول.

بعد ليلتينِ أو ثلاث، خرجتُ إلى الطريقِ في الليلِ ولم تكن إضاءة السيارةِ تكفي لكنَّ عينَ الشابِ كانت ترى ما لا تراه الآن. وقفتُ عند التقاطعِ في الشارع 21 وانعطفتُ يسارًا نحوَ الطريقِ العام. رأيتُ سيارةً كان من المفروضِ أن تكون في الجهةِ الأخرى من الطريق، لكن سائقها استمر في قيادتها باتجاهي مباشرةً واصطدمَ بمقدم سيارتي القديمة. خَدشٌ هنا وخَدشٌ هناك ولكن لا ضررَ يذكر. نزل السائقُ وكان مخمورًا وتضررت سيارته كثيرًا لأنها كانت صغيرةَ الحجمِ مقارنةً بالدبابةِ التي كنت أقودها. اعتذرَ السائقُ المخمور كثيرًا لما سببه من الأذى لشخصٍ غريب كان يمكنه البصق عليه عام 1980م وكرر اعتذاره وأنا أقول له بلغتي الواهية: لا بأسَ عليك، فقط أصلح سيارتك ثم تركته.

منذ تلك السنين وأنا أقارن اعتذارَ المخمورِ الذي فقد عقله وربما خرجَ للتوِ من الحانةِ مع كثيرٍ مما أراهُ من العقلاءِ، في كاملِ أناقتهم ومختلفِ أعمارهم، الذين قد يكون بعضهم خرجَ للتو من مكانٍ استراحَ فيه عقله أنه عَبَد َالله! تتكامل الأفرادُ والمجتمعات بالعباداتِ والمعاملات التي هي جناحانِ يطير بهما الفرد وكل حضارةٍ تنشد البقاء. ليس الغرب والشرق خاليينِ من الفضائلِ أو بريئينِ النواقص لكن وأنت صغير تبقى بعضُ الصورِ والمشاهد في ذاكرتك، تنبشها الناسُ كل يوم، تهز رأسكَ وتقول: أينَ ذاكَ الذي أَسْكَرًتْهُ الخمرْ؟ لعله يخرج من قبره، يهمس في أذنكَ همسةَ المجنونِ ويعتذر عنها! من الرحمةِ أنَّ الناسَ تبقى منشغلةً بأشياءَ عن بعضها وليس عليها حَكَّ معادنِ الناسِ وتعرف هل من التِبْرِ أم الصِفْرِ هم.

إن مازت الناسَ أخلاقٌ يُعاشُ بها
فإنـهـم عند سوءِ الطبعِ أســواءُ
أو كـان كـلّ بنـي حَوّاءَ يُشبهني
فبئسَ ما ولدت في الخلقِ حَـوّاءُ
بُعدي من النّاسِ برءٌ من سقَامِهمُ
وقـربُـهـم للحِـجـى والدينِ أدواءُ


error: المحتوي محمي