ياصاحب النهمة .. همس مائك يعاتبني

عند كل صباح أشاغل نفسي بسماع آخر الأخبار ، عبر مذياع أو تلفاز ، مزاجي يتقلب حسب مايردني من أنباء ،أحيانا أقوم بعكس ذلك، لا أسمع فيها أي شيء ، حتى (الجوال) أتناساه ، لأعيش صباحا بهدوء مؤقت. سكينة صبح أنشدها سرعان ماتتبدد ، تأتي الأنباء من أهل بيتي أو رفاق العمل، أوتلفحني من العابرين في الطرقات .
مع مطلع الأسبوع الفائت وعند ضويحات اليوم المدرسي ، ووسط ضجيج فسحة الطلبة امتدت أصابعي بتكاسل مثقل (للواتس) تخمة الرسائل تربكني وتحيرني ،لكن بصري اختار أيقونةالأديب الأخ(حسين الجفال) قصدته عمدا لعلي أظفر بترويقة استمتاع بجماليات مايرسل، فهو لا يبعث أي شيء إلا ذا قيمة، سواء من إنتاجه أو من إبدعات الآخرين وينتقي لي قمم أدبية عربية وعالمية، وقلت في خاطري لأدخل السرور على قلبي لرسالته الجديدة التي لم تفتح بعد، طمعا في نشوة نفسية، ضغطت على الأيقونة فانضغط قلبي حالا، جفلت فرائصي وأنا أقرأ نعيه على الصورة الصامتة ( الصديق والإنسان الكاتب والباحث في التراث عبدالجليل السعد في ذمة الله ) ، تسمرت في مكاني غير عابئ بما يدور حولي، تركت مسؤولية المناوبة لزملائي، ورحت أفتش عن أيقونة (جليل) لأتأكد من الخبر وإذا برسالتين باللغة الإنجليزية
بتاريخين متقاربين ( جليل في مستشفى القصيمي منذ يوم الأحد بسبب توقف قلبه، وهو في حالة حرجة جدا، ادعوا له وبإذن الله سوف يخرج من هذه المحنة ) ، بعدها (جليل انتقل إلى رحمة الله ) ، رسالتان من زوجته اليابانية(راي) ، عزيت الغريبة وأولادها في مصابهم وكذا الجفال الذي عرفني على (السعد) قبل سنتين ، حينما وجهت لي دعوة عن طريقهما لألقي محاضرة فنية ضمن (أيام الشارقة التراثية) بعنوان (اشكاليةالصورة وذهنية التحريم) . أغلقت جوالي مستذكرا ذكرياتي السريعة مع الراحل ،فخلال تواجدي لمدة ثلاثة أيام صحبني (جليل) في ربوع الشارقة وعرفني على بعض الوجوه الثقافيةمن مواطنين وعرب ، وجمعني في جلسة ودية مطولة في بهو الفندق مع ملك المايكرفون، الإعلامي والشاعر البحريني (حسن كمال ) ورئيس عمليات متحف البحرين (يوسف بومطيع) وهما من ضيوف المهرجان ، ضمتنا جلست حوارية مطولة عرجوا بي لعوالم الفكر والتراث والتاريخ وأفاضوا من مخزون ذكرياتهم عن جماليات بحرين الأمس،بحرين الصفاء والأنفس المتسامحة الودودة، أثروني بكل مايطيب له خاطري ويتغنى به وجداني ، مر الوقت معهم كلمح البصر وتجاوزنا الساعة الأولى من الفجر ، في اليوم التالي عزمني جليل على غذاء خاص في بيته، قال لي بفرح (أريدك أن تنسى أكل الفندق وراح أأكلك طبخة شعبية من يد زوجتي التي أتقنتها مني ، مرقة سمك على كيف كيفك )، أكلتها مع أفراد عائلته الكريمة في سفرة واحدة، لحظئذ شعرت بأني أحد أقاربهم، وليس ضيف عابر ، شملوني بطيبة لامتناهية وكأني أعرفهم منذ زمن ، عزف ابنه (سيف) على البيانو وكذا فعلت أخته(ريم) وهما يتمتعان بعدة مواهب منها (الموسيقى والشعر والغناء والرسم)، وحققا عدة جوائز على مستوى دولة الإمارات وايضا في دول عربية وأجنبية، تأملاتي تتفرس في اللوحات المعلقة في صالة الجلوس، أعمال مهداة من قبل فنانين بحرينين وعرب، أنبأتني بعلاقات جليل بأهل التشكيل واعتزازه بهم، وحبه للفن عموما، وأيضا لفتت نظري أعمال صغيرة لزوجته مستوحاة من الرسوم التقليدية لبلدها ممزوجة بإرث أهل الخليج وحكم يابانية، وأخرى بآيات قرآنية، قاسمهما الخط العربي والياباني، ثمة لوحة استوقفتني تعزف مقطع من قصيدة (علي عبدالله خليفة – بسايل لي تحت مدها، أريد أربط مناديلي، أريد أصعد لكم وأخذ ضوه عيوني وقناديلي ) وبينما كنت اتأمل حروف اللغتين و شكل المرأة الطائرة في صدر اللوحة، واذا بجليل يطربني بغناء( هدى عبدالله) التي شدت بهذه الكلمات، ثم أدخلني مكتبته المنعزلة عن محيط معمار البيت
،رأيت كتب مصفوفة وأخرى مبعثرة، ومخطوطات لأعماله القادمة، خربشات أوراق متناثرة، مسودات لمقالات الصحف اليومية، عيني تجوب المكان المحبب إلى نفسي، كلما أقرأ العنواين تأتيني التعليقات منه ، لكني قرأت أهم عنوان، قرأت جماليات روح جليل الأنسان من أول اتصال به، وقرأت بعضا من صفحاته عن كثب، روح ضاربة في القدم تحمل حنينا للأصالة العبقة بموروثات إنسان الخليج، المنعكسة عطاء متناثرا عبر تدويناته وكتبه ودراساته التحليلية والبحثية ، أقلب إنجازاته وهو يحكي و يدندن بأمثال وأغاني شعبية، لامست روحه التواقة للحياة عبر النكتة والمداعبة المرحة وخفة الظل، إن كان جليل أدخلني بيته كحضور جسدي فقد أدخلني في قلبه محبة أخوية، وباح لي بكل مايخطر على بال صديقين عزيزين من أسرار خاصة، أسرتني أريحيته المعجونة ببساطة ولهجة (أهل المحرق) وذكرتني ب (أطباع أهل أول) حيث لا كلفة ولا تملق ، ولا مداهنة، مودة خالصة بصدق النوايا .
عبدالجليل علي السعد سيرة ضخمة وثرية ومتنوعة، متعدد الكتابات في ميادين كثيرة، مترجم من الأنجليزية للعربية، ناقد مسرحي ، وكاتب درما، فقد كتب حلقات تلفزيونية (سوالف بو عريفان ) وكتب سيناريو فيلم (الرمال العربية )،واباح لي بأن أحد أعماله الدراميةسرقت منه وذيلت بإسم شخص آخر ؟، يحدثني بتنغيمات صوتية ويتشعب في أكثر من فكرة وذكرى، حبه للتراث لايوصف، أفنى عمره غواصا في بحر التراث فأخرج لنا لآلئ ودانات متعددة الأشكال والأحجام والألوان (الفلكلور، والحكايات والمعتقدات الشعبية،وقصص الأطفال، وزينة المرأة وعادات الزواج ، الحرف والمهن التقليدية، وخيرات النخل والبحر ) مغرم بالموروث بمجالاته المختلفة، بل مولع بالتراث حد النخاع، وثق (تاريخ الأغنية الشعبية) و( الآلات الموسيقية في دولة الإمارات ) وله كتاب عن حياة المطرب الإمارتي (جابر جاسم ..الخروج من المألوف) ،له العديد من الإصدارات والمحاضرات والندوات ، رصد كل مايتعلق بالموروث الإماراتي عبر موسوعة ضخمة مكونة من تسعة أجزاء واستغرق سبع سنوات في كتابتها والمعنونة (معجم تراث الإمارات للأولاد والبنات)، وعن هذه الموسوعة حدثني عنها كثيرا وجها لوجه وتلفونيا، شارحا تفاصيل تدوينها والعراقيل والعقبات والإشكالات التي واجهها، وقد أهداني أحد مؤلفاته (الموال ..همس الماء ) ، دراسة قيمة عن رجالات السفن ومواويلهم البحرية ،وله مقالات متفرقة (فنية، تراثية، اجتماعية)- موزعة في الصحف الإماراتية والبحرينية، فهو يمتلك الجنسيتين ،
رحلت يا(ابوفهد) وهذه الكنية المحببة لك لزمن ولى، كان حلما فهوى، ودفعت من أجله حرية مفقودة ! ، خرجت للضوء الشمس مجددا .
وطاب لك أن تكنى ب
(أبو سيف ).
حينما تتصل بي أناديك بالاسمين معا، وتقول لي (كما يحلو لك) ،
ياجليل كم أشعر بالعتب على نفسي لأني لم أوف معك الوعد بحضورك ل (مهرجان الدوخلة) أنت وزجتك العام قبل الماضي ، الذي كان من المقرر أن تأتيا إلينا لتقدم (أم سيف ) وأولادها (فن الأورغامي) للجمهور ضمن فعاليات الخيمة الفنية، وجهزت لنا محاضرة عن قيم (الخط العربي والياباني ضمن حوار مشترك ) كنا في شوق ولهفة لحضوركم بصحبة عائلتكم الكريمة، لكن كل الترتيبات والإتصالات التي عقدناها معا ذهبت أدراج الرياح ،ظرف قاهر حال بين حضوركم إلينا بسبب تأجيل افتتاح الدوخلة 12 ، لثلاثة أيام نتيجةأحداث الحج الأخيرة ، وهو وقتكم المناسب ضمن الأيام الأولى، فخسرنا تواجدكم معنا في عرسنا السنوي ، وخسرنا أمسيتكم الفنية ، وكان الأمل معلقا للأعوام القادمة…..
جليل لك الفضل بما أوليتني من جميل محبتك ، وأنت السباق لسماع صوتي بين الحين والآخر وأنا المقصر في ذلك، فأنت المبادر بالاتصال، وكانت لك أمنية بسيطة كررتها على مسامعي مرات ومرات (إذا ييت يمكم وديني عند فوال يماني مشهور في سوق الدمام ، لأني لحد الآن ماضقت مثل طعم طبخته، كنت أيي له زمن السبعينات ، إذا وصلتني له راح أسرد لك مع كل تغميسة موقف وذكرى وغصة… ).
جليل كم كنت ترغبني للسفر معك لليابان برفقة أسرتينا معا ، وكانت استجابتي عنوانها التأجيل والتسويف، وأبلغتني بقولك المتحمس (ترى اليابان أمة عظيمة وحضارة مغيبة عنا،اذا أردت عن تعرفها حق المعرفة فلتزرها معي) ،
آخ ياجليل آخر اتصال جمعني بك عبر الأثير، كنت تريد مني عنوان الصندق البريد لترسل لي أحدث إصداراتك الأخيرة، سيرة مكان مولدك ومراتع صباك، ( المحرق ..رائحة المكان) التي كنت تتباهى أمامي بحكاياتك عنها، بأنك دونت عنها أشياء وأشياء واستحضرت مشاهد وعجائب لم تخطر على بال أحد ، سردت عالم المعتوهين والمجانين والسراق وذوي العاهات والمشبوهين ، وقلت لي صراحة بأنك عرجت حول المسكوت عنه في الأزقة الخلفية – ماأظنك سوف تبوح به ربما تراجعت عنه- كم كنت متشوقا للكتابك هذا ، أرسلت لك العنوان متأخرا ولم يدر بخلدي بأنه آخر لقاء أسمعتني فيه صوتك ، انتظرت الكتاب بين الحين والآخر ، إلى أن جاءني رسالة موتك.
اغرورقت عيناي على رحيلك المفاجى، وتذكرت دموع عينيك وأنا في مجلسك وأنت تردد مع (هدى عبدالله – ليل المحرق – ياحبيبي..سوف أحكي لك عن ليل المحرق ..حين يخلو، من جموع تنزوي في كل مفرق …تقطع الوقت بأوهام وأحلام وتطرق كل باب للدعابات وأشجان الحديث …سوف أحكي لك عن ليل المحرق ..حينما يخلو من الناي المؤرق …في الليالي المقمرات …يسكب اللحن العراقي الحزين ….طارقا كل الحواري والجهات …ليبكي قلب عذراء سجين …تزرع الآه وأصداء الأنين …في أعالي حصنها الداجي الحصين……
سوف أحكي لك عن ليل المحرق …حين يغرق في متاهات الظلام …وطيور الليل حيرى لاتنام …ترصد الساحات قفرا من زحام ….من ضجيج …ياأساطير الخليج …لي فيك عبرة عند الختام …عن جزاء الصبر للقلب المحرق ) .
تهت معك في رائعة (علي عبدالله خليفة) ودمع العين منسكب وحاولت أن أخرجك من هذا الإلتياع والشجن لكني لم أقو، وسألتك لماذا هذا الدمع بعد هذا العمر ياجليل، قلت لي( المحرق كانت ولم تزل حبيبتي وجنتي ومحياي ومماتي ….)!؟

آه ياجليل سلام على روحك الف مرة، سأذكرك بجلال قدرك ، وبقيمة مواهبك ، وسأذكر طيبتك وحفاوتك السخية بصحبة لن تنسى ، وإن غادرت الدنيا ، ستبقى الفيديوهات التي سجلتها لشخصك شاهد عيان أفتخر بها لتذكرني بأنك رحلت ولم ترحل ،
رحمك الله ياجليل رحمة واسعة، كم أسمعتني من النهمات عن الصحبة وفراق الأحبة ولوعة الغياب، وكأنك بحار مسافر بلا رجعة ! .
كانت أحلامك كبيرة، وطاقتك متجددة بعنفوان المحبة والإخلاص .
ياعاشق التراث والناس وداعا،
ستبقى أطيافك غافية على مياه الخليج .

همسة عتاب :
تعتز بك جميع الدوائر الثقافية والتراثية في موطنك الثاني
هل فكرت يوما بتكريمك ؟
أي تكريم يليق بك بعد الرحيل !


error: المحتوي محمي