نارٌ كبيرة تضرم وحلقة متراصة من الصغار والكبار يصفقون وينشدون مساء اليوم الأخير من شَهْر صَفَر؛ فرح متواصل حتى تغيب الشمس، ويعود الجميع إلى منازلهم؛ فماذا كانت تعني هذه العادة؟ ولماذا سادت في القرون الماضية وبادت اليوم ولم تعد كما كانت؟
الباحث في التراث الشعبي زكي الصالح يقول لـ«القطيف اليوم»: “إنّ هذه العادة تُسمى «حرق صفر»، وهي من العادات القديمة، وكانت تمارس بشكلٍ واسع في العراق، وبلاد البحرين، أو ما يعرف الآن بالقطيف، والأحساء، ومملكة البحرين”.
ويبيّن أن انحسار هذه العادة – الطقس – بدأ في القطيف من منتصف السبعينيات الميلادية، وذلك بعد انتشار التعليم، وميل الناس إلى وأد كل موروث قديم باعتباره يرمز إلى الجهل، والتخلف، والرجعية ومناوئًا إلى التحضر والمدنية، بحسب تعبيره.
حرق النحس
ويشير إلى أن حرق صفر؛ كعادة اجتماعية كانت تُمارس في السابق في عصر آخر يوم من شهر صفر، وفيه يجتمع الناس في ساحة بالقرب من عيون المياه الجوفية، أو البحر في المناطق التي لا توجد فيها عيون ويكورون “سعف النخيل”، أو “القضقاض” وهو اسم يطلق على نوع جاف من الحشائش، ويضرمون النار فيها ثم يقفزون عليها أو يمرون حولها، وهم يرددون أهازيج تختلف عباراتها باختلافِ البلدات والمناطق، ولكنها جميعًا تعبر عن ابتهاجها بخروج صفر، ومقْدِم شهر ربيع.
ويقولون:
واصفيروه صفر..
طلع صفر يا نبي الله وجانا ربيع يا نبي الله
طلع صفر بشره وشروره وجانا ربيع بفرحه وسروره
حرقناك يا صفر يابو المصايب والكدر
ويذكر أن النساء كنّ يبادرنّ إلى تكسير الأواني الفخارية كذلك خارج المنزل توديعًا لموسم الحزن والحداد والنحوسة وابتهاجًا بمَقْدِم موسم الفرح، والأعراس، و”شب البخور”، وخلع ثياب الحداد السوداء، وارتداء الملابس الملونة الجديدة.
الأصل التاريخي
وإما إذا كانت هذه العادة لها أصل تاريخي ترجع إليه فيوضح الصالح أن الاحتفال بهذه المناسبة أنها تعود في جذورها إلى أصل حضاري قديم ويرتبط بالطقوس التي كانت تُمارس في الحضارات القديمة؛ كالسومرية، والأكدية، والفارسية، والفرعونية، والإغريقية احتفالًا بحلول موسم الربيع والخصب، ولذلك نجد أن الاحتفال بموسم الربيع يمارس في كثير من بلدان العالم وبمسميات مختلفة، كعيد النيروز في إيران وأجزاء من سوريا والعراق، و”شم النسيم” في مصر.
وفي منطقتنا حيث كانت تحت تأثير وامتداد الحضارة السومرية ومارس الناس هذا الطقس الاحتفالي إلا أنه بعد اعتمادهم على تقويم الشهور القمرية جاء شهر ربيع بعد شهري محرم وصفر وهما، كما هو معروف، موسمان للحزن والحداد لدى سكان المنطقة، وحيث إن شهر ربيع الأول وكذلك الآخر لا يأتيان بالضرورة في موسم الربيع، فمرة يأتيان في الصيف ومرة في الشتاء وأخرى في الخريف، فحدث تحول في مضمون الاحتفال بهذا الطقس عند سكان بلاد البحرين، وجنوب العراق كونه احتفالًا بموسم الزراعة والخصوبة إلى الاحتفال بوداع شهري الحزن والحداد على مصائب أهل بيت الرسول (ص) ومقدم شهر ربيع الذي فيه ينهي الناس حدادهم وتتلون حياتهم بألوان البهجة والفرح والسرور.
ويبيّن الصالح أن في السنوات الأخيرة تم تسجيل بعض المظاهر الاحتفالية بهذه المناسبة، وإن كانت في نطاق ضيق، وما أتمناه هو الحفاظ على هذه العادة ذات الأصل الحضاري وانتشار ممارستها.