راحلٌ دونَ متاع!

في هندسةِ الحياةِ هناك نقطة انعدام الفائدة. هي تلكَ النقطة التي بعدها مهما أضفنا من طاقةٍ أو جهد لا يأتينا بمنفعةٍ ترجى. هذه النقطة تشبه النقطةَ التي يصلُ فيها المالُ عند الأغنياءِ رقمًا لا ينفعهم إن زادَ ولا يضرهم إن قل. ليس أجملَ من أن يملكَ المرءُ المال، به توصل الرحمْ وبه يُفَكُّ العاني وبه يكسب المرءُ مقالًا ومكانةً وعزة. لكن كم يكفينا نحن البشر من مال؟ هي معادلةٌ تشبه ماءَ النهرِ الذي مر به طالوت وقدمه امتحانًا لتابعيه “فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ”.

كلنا عطاشى لأنهرِ الماءِ التي تجري في غايةِ العذوبةِ والحسن، لنا رخصةٌ أن نرفعَ أذى العطشِ ونملأ قِرَبَنَا ببعضِ المالِ ولكن من يأتيهِ المالُ يملأ كل ركابه خوفًا أن يجفَ النهر. يختلف المالُ عن بقيةِ ما نملك فهو إما يشتري لنا الكرمَ والفخرَ أو يشتري لنا العارَ، فإذا اشترى الكرمَ والفخارَ تختفي نقطةُ انعدامِ الفائدة، وعندما نشتري به العارَ تصبح كل النقاط نقاطًا عديمةَ الفائدة.

يذهب المالُ ويأتي، يمتلئ الجرابُ ويفرغ وساعةُ العمرِ تخسر الرملَ حبةً حبة، نسمعها تطرقُ آذاننا وكلما خسرت الساعةُ رملًا أغرانا جمعُ المالِ الذي يصبح مثل الرملِ عديمَ الفائدة. بالماءِ نسقي الشجرَ وبالمالِ نعمر الدنيا فلا غنى عن الماءِ أو المال. في الدنيا من ينام ويصحو يقلب كفيه ليرى ما كسبَ في يومٍ أو شهر لا يكفي أن يشتريَ به خبزًا وفي الدنيا من لو عاشَ وماتَ سبعينَ مرةً ولبسَ الحريرَ وأكل الجواهرَ لزادَ المالُ عن حاجته “ألا يَا جَامعَ الأمـوالِ هَـلَّا جَمَعتَ لَها زماناً لافتِـرَاقِ”!

أماويَّ! قَد طَالَ التَّجنُّبُ والهَجرُ
وقدْ عَذرتني مِن طلابِكم العُذرُ
أماويَّ! إنَّ المَالَ غادٍ ورَائحٌ
ويَبقَى مِن المَالِ الأحادِيث والذِّكرُ
أماويَّ! إني لا أقولُ لِسَائلٍ إذا
جَاءَ يوْماً حَلَّ في مَالِنا نَزْرُ
أماويَّ! إمَّا مانحٌ فمُبينٌ
وإمَّا عَطاءٌ لا يُنَهنِههُ الزَّجرُ
أماويَّ! مَا يُغني الثَّراءُ عَن الفَتَى
إذا حَشرَجَتْ نَفسٌ وضَاقَ بها الصَّدرُ

رأيتُ عجوزًا في صغري كان يملك طاسةً من المعدن، يضع فيها ماءَ الوضوءِ في الفجرِ وإذا ارتفع النهارُ جلس يستجدي المالَ فيها وإذا جاعَ اشترى له أكلًا فيها وبعد الظهرِ والليلِ هي وسادته، إذا اتسخت ملابسهُ غسلها في الطاسة. لم تكن الطاسةُ إلا رمزًا للقناعةِ ومعنى لما يكفينا لكي نعيش! ليس علينا أن نعيش فقراءَ مدقعين صعاليك ولكن ليس المال بعد الحاجةِ إلا الرمل الذي لا ينفع خازنه. هل من أحدٍ يأمر العجوزَ عند الحدود: قف للتفتيش أو يسأله: ماذا تحمل؟
عَاذِلَتي إنَّ بَعضَ اللَّوم معنفةٌ
وَهَلْ مَتَاعٌ وَإن أَبقَيتُهُ بَاقِ


error: المحتوي محمي