«الحِلا» يعود مع وفاة «مريم» في مآتم القطيف النسائية

مازالت القطيف محتفظة بعادة توزيع الأسماك المجففة في ذكرى وفاة السيدة مريم بنت عمران في المجالس الحسينية النسائية، اعتقادًا بأنه الوجبة المناسبة لتناوله مع الحشائش حيث إن السيدة مريم كانت تسكن الجبل وتعتمد الخضراوات الورقية زادًا لها، كما تنقله كتب الروايات.

فأصبح تناول الأسماك المجففة التي تعرف باللهجة المحلية بـ “الحلا” -بكسر الحاء ودمج الألف مع اللام في (ال التعريف) –
في القطيف، عادة شبه موسمية حفظتها النسوة عن طريق هذه المناسبة من كل عام، فلم تعد النساء يجتمعن كالسابق على “طبرة” حلا في “الحوي” ويأكلنه في وقت العشاء وهن يتحدثن، أو يشربن مرقته كدواء لطرد الحمى أو الأنفلونزا إن استدعت حالتهن ذلك.

عادة تاريخية

تعد عادة تجفيف الأسماك وتحويلها إلى “الحلا” عادة قديمة متوغلة في التاريخ، حيث وجدت مرسومة على جدران المغارات والمعابد كما ذكرت في تاريخ السومريين والفينيقيين، وانتشرت في كثير من مناطق القطيف خاصة المطلة على البحر، كبحارة عنك وأهالي الشريعة وباب الشمال وفي تاروت وسنابس وصفوى وسيهات وغيرهم.

أساليب متعددة لتجفيفه

يوضح الباحث التاريخي عبد الرسول الغريافي لـ«القطيف اليوم» أن “الحلا” ليست عملية طبخ أو قلي أو شوي، إنما هي عملية تجفيف لبعض أنواع الأسماك فور استخراجها من البحر وبعد تمليحها بالملح الخشن الذي يستخرج من بعض السبخات أو من سواحل البحر الجافة وذلك في موسم توفره في الصيف لغرض حفظه من أجل أكله في مواسم شح الأسماك وخصوصًا في فصل الشتاء، ويؤكل مباشرة دون طبخه، ولكن هناك من يقوم بسلقه قبل تناوله.

ويرجع سبب تسميته المعروفة عند أهالي القطيف والبحرين ومناطق الخليج العربي “بالحلا” إلى انحدارها من أصل عربي فصيح حيث يذكر في المعجم الوسيط في قوله: “حلا عن الماء أي حبسه عن الذهاب عنه ومنعه عنه، وحلأ الجلد أي قشره” وكلا المعنيين يدلان على التجفيف.

ويذكر الغريافي أن لتجفيف “الحلا” طرق متعددة؛ منها تعريض الأسماك لأشعة الشمس في ساحات كبيرة عند السواحل بعد تمليحها، حيث يفرش الحصر فوق تلك المساحات أو على سطوح المنازل، فيما يعلقه البعض فوق الحبال إن كان ذا كمية صغيرة، وبعدها يترك لأشعة الشمس لمدة تزيد على العشرة أيام وقد تصل لعشرين يومًا بحسب نوع الأسماك، ثم يعبأ في أكياس الخيش إذا ما أريد تصديره أو السفر به أو حفظه بكميات كبيرة.

تفخير العوم للأبقار والأغنام الحلوب والحلا للأكل

ويقول: “وهناك طريقة أخرى لتجفيف وحفظ الأسماك تعرف بالتفخير وهي تشبه إلى حد كبير الطريقة المعروفة عند المصريين “بالفسيخ” وهي طريقة قديمة من أيام الفراعنة حيث تدفن الأسماك بعد تمليحها ولفها باللدائن تحت الرمل لمدة طويلة، أما طريقة “التفخير” والتي اشتهر بها أهالي صفوى أكثر من غيرهم تكون بتعبئة جرار ضخمة بالأسماك المملحة، ثم ترص جيدًا وتترك داخل الجرار بعد إحكام غلقها لفترات طويلة تصل إلى الستين يومًا في الشتاء”.

ويشير إلى أن أغلب الفخار يستعمل لإطعام الأبقار والأغنام لإدرار الحليب وأما ما تلف منه أو تبقى من فتاته وعظامه فيستعمل كسماد جيد للمزارع وخصوصًا النوع المعروف “بالعومة” والذي يجلب أغلبه من عمان وإيران.

أسماك معتمدة لـ”الحلا”

يختار البحارة أسماك “الحت” للتجفيف وهي الأنواع الصغيرة التي لا تحتاج للتقطيع ومن أشهرها الصافي، والشعري، والقين والعنفوز، واللحلاح، والمجوى، والقرقفان، وأما السمك الكبير فعندما يراد تجفيفه فإنة يفتح بطنه في شقين بنفس الطريقة المعروفة اليوم بالدفتر أو الفراشة عندما يراد شيها مفتوحة، ويعرف هذا النوع من الحلا الكبير والمفتوح باسم “المشلق”.

“العوم والمتوت” تسالٍ في القطيف

يقول الغريافي: “أما النوع الثالث للتجفيف والحفظ فهو تجفيف سمك العومه أو العوم والمتوت وهذا النوع لا يسمى حلا رغم أنها أسماك مجففة، فهي تستخدم فقط كأعلاف للأبقار والأغنام بعد التجفيف ويقبل عليها الفلاحون لكونها مدرة للألبان والمتكسر منها يستخدم كسماد ممتاز للزراعة”.

ويضيف: “وهناك نوع يعرف عند أهل القطيف والبحرين بالمتوت وعند أهل الأحساء يعرف بالإحساس وهي أسماك صغيرة جدًا بحجم الحراسين التي تعيش في جداول المياه والترع يأكلها البعض من أهالي القطيف والبحرين ولكن للتسلية فقط وأما عند أهالي الأحساء فتستخدم في وجبات رئيسية عندهم تعرف “بالودمة أو الودام” حيث يضاف إليها مواد وتوابل، وتؤكل مع الفجل بعد عصر الليمون عليها”.

وبيّن أن العوم والمتوت هما نوعان من “الحلا” إلا أنه يطلق عليهما عومة ومتوت وهما مسميات تلك الأسماك الصغيرة التي كانت تستورد في أكياس الخيش الكبيرة ويفوق حجمها أحيانًا حجم أكياس الأرز وكان من أنواع هذا العوم القنيدة، والعماني، والكسرة، والفارسي، والصلي، والمتوت.

سوق العومة في الخمسينات

يذكر الغريافي أن “للعوم والمتوت” سوقًا مستقلة في القطيف تعرف بسوق العومة كانت في الخمسينات الميلادية ضمن أسواق القطيف في سبخة مياس ثم انتقلت هذه السوق للشريعة شمال سوق الفاكهة التي أزيلت، وفي سنة 1962م انتقلت لبديعة البصري شرق المقصب القديم (شرق سوق حراج السمك حاليًا) حيث بنتها البلدية على شكل سكة مكونة من أربعة صفوف من الدكاكين المتقابلة والبالغ عددها عشرين دكانًا، وفي عام 1403 الموافق 1983م أزيلت سوق العوم فاضطر الباعة إلى بناء سكة متواضعة تقع غرب سوق الخميس الحالية مباشرة ويفصل بينهما شارع الرياض ويشاركهم فيها الحدادون.

وكان الزبائن الذين يفدون على “سوق العومة” من جميع أنحاء القطيف وقراها وكذلك من الأحساء والجبيل والدمام، وغالب هذه الشريحة هم من الفلاحين والبحارة والمزارعين وكذلك من المستهلكين؛ فالبحارة يستخدمون العوم المجفف لصيد الأسماك بالقراقير والفلاحون والمزارعون يستخدمونه كعلف للأبقار وأسمدة للمزارع، وكذلك بعض البدو ورعاة الأغنام كانوا يعلفون أغنامها بالعوم، وأما عن باعة “العوم” فهم تجار يجلبون “العوم والمتوت” من عمان وفارس والهند وكذلك من دبي والبحرين، إلا أن سوق العوم انقرضت لقلة الإقبال على شرائه وموت أغلب باعته وبقيت السوق خاصة للحدادين.

ويؤكد الغريافي أن “للعوم” شهرة في التجارة أكثر من “الحلا” الذي يبيعه السماكون بشكل أقل، فكانوا يبيعونه ضمن الأسماك ومعه الربيان المجفف وذلك في المواسم التي يضعف فيها صيد الأسماك كأيام الشتاء والبوارح.

طبخات خاصة

وتحدثت الحاجة زوان مهنا لـ«القطيف اليوم» عن ذكرياتها القديمة مع وجبة “الحلا” موضحة أنها كانت ترى تجفيف السماكين لبقايا الأسماك التي تظل عندهم للحفاظ عليها من التعفن، ثم يبيعونه بقيمة الربعة والنصف ربعة، والرطل والنصف رطل، كل على حسب حجمه ونوعة وعدده، وتطهوه بعض النساء مع الأرز والدبس أو السكر، وهذه الطبخة خاصة لا يتناولونها إلا مع “الحلا” وتسمى بـ”البرنيوش”.

 


error: المحتوي محمي