أطلَّ شهرُ تشرين الأول في نهايته وفي الأشهر القادمة يبرد الجو قليلًا وأيام وليالي الشتاء تُشعل كوانينَ الحبِّ التي حذارِ أن تنطفئ. تمتزج أرواحُ العاشقينَ حتى إن بعضهم لا يستطيع أن يسيرَ في دربِ الحياةِ دون الآخر، لكن مهما علت رتبة العلاقة فإن الدهر قد يفصم عراها، إلا القليل! تمتحن الأيام كل الصداقات وكل الحب بأنواعه وليس مجمل دوام بعضها إلا من قول “سلمت القافلة لأنه لم يرها قطاع الطريق”، هناك قوى عمياء في الدنيا تصطدم ببناءِ كل حب رجاءَ أن تطيح به.
أحبت الخنساءُ، تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد، أخويها صخرًا ومعاوية ولكن عيونها بكت صخرًا أكثر من معاوية. لم يكن حبها لصخرٍ دون سبب فهو الذي أحبها وشطر ماله نصفين وخيّرها بين أحدهما، حتّى ملّت زوجته واعترضت فقالت: “أما كفاكَ أن تقسمَ مالكَ حتّى تخيرها؟” فقال قاطعًا عليها كلَّ اعتراض:
والله لا أمنحها شـرارهـا … وهي حصانٌ قد كفتني عارهَا
ولو هلكتُ مزّقت خمارها … واتّخذت من شعرها صدارهـَا
طعنَ ربيعةُ بن ثور الأسدي صخرًا فأدخل بعضَ حلقاتِ الدرع في جنبه ولم يمت صخر وإنما أوهنت الضربةُ قواه فلازمَ الفراشَ مدةً طويلةً لا يقوى على قضاءِ ضروريات حياته. ملت زوجته (سليمى) ولم تمل الخنساءُ وأمه حبهما له وخدمته. وفي ذاتِ يومٍ مرت امرأةٌ من نساءِ الحي بزوجة صخر فسألتها عن صخرِ وأحواله وهل تماثل إلى الشفاء أم تردت حالته؟ وكان لقاء المرأتينِ على مقربةٍ من فراشِ صخر فكان جواب سليمى أن قالت: “لا هو حيٌّ فيرجى ولا ميتٌ فينسى” وكان صخرٌ يسمع ترادِّ الحديث فأصابه قول سليمى وطعن روحه وصار يقارن بين حبها وحب أمه له، لأنه كان يسمع قول أمه للسائلينَ عندما يسألونها عنه “أصبح بنعمة الله صالحًا، ولا يزال بخير ما رأينا سواده بين أيدينا كأصلح ما يكون عليل” فوجد الفرق كبيرًا والهوة سحيقةً، أمُّ صخرٍ تتلذذ بخدمته دون كللٍ وسليمى ينتابها الضجر والملل فقال:
أرى أمَّ صخرٍ لا تمل عيادتــي … وملت سليمى مضجعي ومكاني
فأي امرئٍ ساوى بأمٍّ حليلـــةً … فلا عاشَ إلا في أذى وهــــوانِ
وما كنت أخشى أن أكونَ جنازةً … عليك ومن يغـتر بالـحـدثـــان
لعمري لقد نبهت من كان نائمًا … وأسمعت مـن كانـت له أذنـان
أهم بأمر الحزمِ لو أستطيعــه … وقد حيل بين العـيـرِ والنـزوان
إن أحببتَ فاجعل الحب برفق وإن كرهت فاكره برفق فربما انقلب الصديقُ عدوًا وتمنى موتك ولربما انقلب العدوُ صديقًا وكان الكتف التي تبكي عليها عندما تحاول المتاعب إطلاق رصاصةِ الرحمة على أفراحك وإذا طالت بك ليالي الشتاءِ تذكر من لا يخون حبَّ العاشقين.
إن أردت أن تختبرَ حبك أجري الماءَ من تحتهِ وانظر إليه. قيمة الآلام أنها هي ذاك الماءَ الذي يجري من تحتِ الحب.