ما أصعب أن يأتيك خبر رحيل أحد الأعزة على حين غفلة، تلقى عليك الكلمات وكأنك لا تسمع، كلمات ثقال على الأذن والوجدان والقلب، تصدق الخبر أم تكذبه، تعيش حالة من الارتباك، تؤكد أم تنفي، سرعان ما يتردد الخبر كصدى يهز كيانك، تبهت، تتسمر مكانك، تتملكك الدهشة، تحيطك الحيرة، معالم وجهك تتغير، نبرة صوتك تتبدل، يأسرك الأسى كغمام لا ترى من حولك، يجرك الحزن إلى الآهات والحسرات، وتتوالى عليك ذكريات الأحزان التي لا تنقضي إلا بانقضاء آجالنا.
عصر الأمس كانت قيلولتي مضطربة، أيقظني صوت أذان المغرب، وصفعتني ابنتي بالخبر (أمي أم أحمد ماتت)! معقول! دوار لافني بشهقة الأنفاس، صمت، حشرجة كلام، كانت قبل يومين تتحدث بأريحية، ماذا حصل؟ يا إلهي عمتي في ذمة الله، من أين لك هذا الخبر يا ابنتي؟ أمي اتصلت وكتبت في (قروب العيلة)، أفتش، أسأل، اتصلت حالًا بزوجتي، جاءني عبر الأثير نحيبها من ردهات مستشفى الحرس الوطني، وصلني الخبر اليقين دون كلمات، بعد أقل من ساعة دخلت أم أولادي حاملة عكاز أمها، جلست وهي تحتضن العكاز، بكت بكاء يفتت الصخر، على الرغم أنني عصي الدمع، لم أتمالك نفسي فاختلطت الدموع بالدموع مع حرارة الفقد، تسمعني كلمات بكائية مسترسلة، هدأتها ما استطعت سبيلًا، وتقول: “الآن أصبحت يتيمة لا أبو ولا أم عندي”.
قلت لها: “الأمر كله لله، الله أخذ أمانته، ما باليد حيلة”، ذهبنا على عجل للمغتسل والصلاة على روحها، كم يكون الأمر موجعًا وقاسيًا حين تفارق عزيزًا في عتمة الليل وتسمع نحيب النسوة من وراء التشييع، وتقرأ الفاتحة تلو الفاتحة بين صمت القبور وتتذكر من رحلوا من أحباب وأصحاب وخلان ومعارف، هنا آخر المطاف هنا المرقد الأبدي.. رحمك الله يا أم أحمد، ورحم الله المؤمنين والمؤمنات، فكلنا راحلون.
كانت كلمات عمتي الأخيرة لأولادها وبناتها، وهي مستلقية على السرير الأبيض: “هالمرة ما فيه عودة للبيت، هالمرة للمقبرة”، أي حدس مر على لسانها، أي وداع مر بخلدها، وداعًا يا آخر العمات، وداعًا أيتها الإنسانة الصابرة، كم ذرفت الدمع مدرارًا على رحيل أقرب الناس إليك، فقدت الزوج وأعز البنات، فقدت بنات وأولاد الأخت والأخ، وفقدت من قبلهم كل الأخوة والأخوات وفقدت أقرب الجارات إلى نفسك، عشت سنواتك الأخيرة في تذكرهم واسترجاع أيامهم وتعداد مناقبهم، كم جررتي الآهات والأنات على رحيل أحبابك، وبرغم كل الأوجاع كنت محتسبة أمرك إلى الله.
كم من مرة تقولين: “كل المصائب هونتها مصيبة حسين”، لم تتركي عزية أبي عبدالله إلا حين أضناك المرض، حرصك دائم لحضور المآتم، كم سمعت منك أسماء الملايات، وأنين النائحات، وكان سعيك مشكورًا عند جميع العتبات المقدسة، ناجيت المقامات، ووهبت النذور لجميع الأضرحة والأولياء الصالحين، لله درك يا جارة البحر، كاد البحر أن يتخطفك في سنين عرسك الأولى حيث انقلبت بك (العَبرَة) في لجة الماء بين القطيف وجزيرة تاروت، قبل ميلاد الجسر، وعناية الله ولطفه أنجاك من هلاك أليم، من حبك لخيرات البحر، قبل يومين اشتقت لأكل السمك، فأحضر بناء على طلبك، أكلت بنفس شهية، وقبل ساعات رحلتي بنفس رضية، وداعًا يا آخر العمات، نامي قريرة العين فلديك ذرية كلهم بررة.
مر الليل موحشًا، وزوجتي تلحفت بأنينها تحتضن العكاز، مهما كبرنا الأم هي عكازنا في الحياة، يكفي دعاؤها المستمر في كل خطواتنا، رحيل الأم موجع أيها الموت.. (وما على الموت من معتب).