من منّا لا يتذكر تلك المجالس التي كانت تعج بكبار السن، ومتوسطي الأعمار، وهم يتناوبون في ما بينهم بطريقة كلاسيكية متناغمة على تدخين آلة غريبة قاعدتها سوداء مكورة، تنفث عبر قصبة دخان كثيف أبيض، تتلقفها الأيدي التي ملئت بتجاعيد الزمن، والأخرى الملساء الناعمة، هم يفعلون ذلك، وكأنه أمرٌ روتيني أو طقس شعائري تابع للمناسبة!
مريم البقال التي لديها الكثير عن كيفية إعداد تلك الآلة الصغيرة الغريبة والمعروفة بـ«النارجيلة»، على الرغم من أنها لم تدخنها يومًا، ولكن كانت تعدها لمجلس والدها، تقول لـ«القطيف اليوم»: «النارجيلة هي جوزة هند تُشترى جاهزة من السوق، بعد أن أفرغت من لبنها ولبها ثم اتخذت كآلة للتدخين بأن ثقب لها ثقبان ضيقان جدًا أحدهما في رأسها تجهز له مدخنة «رأس» شديد التحكيم حتى لا ينفذ الهواء منه، يضع فوقها تبغ جاف «تتن» كما يعرف في اللهجة المحلية، وجمرة نار متوسطة الحجم، والثقب الآخر في جانبها يوضع فيه «القلم»، وهو قصبة لامتصاص الدخان، ويوضع في الجوزة ماءً قليلًا، بعد أن غسلت جيدًا ليمر به الدخان فيترطب قبل أن يبلغ فم المدخن، وتسمع للماء قرقرة لتخلل الهواء في الجوزة عندما يمتص الشارب الدخان».
شديدة الحرارة
وتتحدث «البقال» بدقة عن كيفية إعداد النارجيلة، مشيرة إلى أن التبغ «التتن» المستخدم في النارجيلة يجب أن يكون ناعمًا جدًا وجافًا حتى لا تفقده الطراوة حرارته، لافتة إلى أن تدخين النارجيلة يختلف تمامًا عن تدخين «القدو»، إذ أن الأخير تتخذه النسوة للسمر والتسلية فتطول مدته إلى الساعة، أما النارجيلة؛ فهي لتعديل الرأس والمزاج كما تقول، ولا تأخذ من مدخنها إلا ثواني معدودة – نفس أو نفسين- تتراوح بين الثانية والثالثة لشدة حرارتها.
غسلها وتنظيفها
وتضيف «البقال» أن ماء النارجيلة وتبغها يبدل في كل مرة وتغسل كذلك، حتى لا تفسد الجوزة، وهناك من يغسلها بماءٍ ورمل حتى لا تتعفن وتكون مرتعًا للبكتريا، كما أنها تلون باللون الأسود أو الأخضر، موضحة أن النساء لا يحببن تدخينها فهي تشرف على تجهيزها لمجالس الرجال وتجمعاتهم الدينية ومناسباتهم الاجتماعية.
وتذكر معلومة طريفة إذ تقول: «إذا لم يتوفر الفحم في المنزل تقوم النسوة بإشعال التبغ «التتن» بأوراق كرتون الحليب».
ضيافة الضيف
الحاج علي بن يوسف يقول إن جوزة الهند في الأيام الماضية كانت تباع بريال واحد، أما الآلة بجميع أدواتها فتباع بـ 50 ريالًا، مع الاستعراضة – أداة صغيرة لمسك النارجيلة- وهذا السعر في ذلك الوقت كان سعرًا مرتفعًا، لافتًا إلى أن النارجيلة كانت كنوعٍ من الضيافة الضرورية؛ حيث كانت تقدم للضيف بعد القهوة والتمر مباشرة، وفي المناسبات الدينية والاجتماعية يبدأ تقديم النارجيلة لأعلى هرم في المجلس؛ كالملا أحيانًا قبل أن يبدأ مجلسه.
ويؤكد «بن يوسف» أن النارجيلة كانت متوفرة بكميات كبيرة لتوفر جوزة الهند في الأسواق، وكان بمقدور أي أحدٍ أن يشتريها بريال واحد، وتعمر زمنًا طويلًا إذا حافظ عليها المرء، لهذا كانت تُسند أو تعلق على الجدار إذا انتهى منها بعيدًا عن عبث الأطفال.
في الشعر
الحاج علي الذي يتذكر ِأبياتًا شعرية شعبية سمعها من الملا علي بن رمضان، من سكنة القطيف آنذاك، يؤكد أن النارجيلة أخذت حيزًا كبيرًا في نفوس محبيها، حتى كانوا في أشعارهم يقولون:
نارجيلتي يا أم التتن
باقوها بغليونها
عسى اللي باقها الحزن
والله لأدي ديونها
سبع ذبايح للخضر
يوم اللي يُلقونها
من أين جاءت؟
يُعتقد أن النارجيلة أتت من وسط الهند؛ وكان الانطباع حينها أنها وسيلة غير ضارة للتدخين، لكن البعض يرى أن أصلها يعود إلى بلاد فارس؛ ثم انتقل استخدامها إلى بلاد الخليج العربي، وكما اختلفت الدول والشعوب في تسمياتها، اختلفت أيضًا في طريقة تصنيعها.
منذ نحو ثلاثة عقود، وبالتزامن مع انتشار الشيشة الحديثة، والتي تعرف محليًا باسم «المعسلة»، بدأت «النارجيلة» تترجل عن مقامها لأسباب كثيرة، بعضها لا تفسير له، فقد اتجه الجيل الجديد لاستخدام المعسلة بكثرة رغم الوعي بأضرارها.
ولم تجرؤ آلة التدخين المستحدثة التي دخلت إلى المجتمعات الخليجية في الآونة الأخيرة على دخول مجالس المناسبات وتقديمها للحاضرين أو حتى لأعلى هرم فيها، احترامًا للمكان، وكون المستحدثة الجديدة أصبحت ظاهرة انتشرت داخل المقاهي والاستراحات للترفيه وأحيانًا للتباهي.
فيديو: