الصبي والجرار

بلغَ ابن الفلاحِ الخامسةَ عشرَ من العمرِ فأرادَ أن يتعلمَ قيادةَ الشاحنة الصغيرة حتى يتمكن من مساعدةِ والدهِ العجوز. عرضَ الشابُّ الرأيَ على والدهِ الذي لم يمانع ورمى إليه مفتاحَ جرارِ الحقل. هز الصبيُّ رأسه وسألَ والدهُ: لمَ الجرار يا ابي؟ قال العجوز:ُ إن عرفتَ أن تقودَ هذا الجرار بينَ الحقولِ فلن تعجزكَ قيادةُ الشاحنةِ الصغيرة بعدها! لم يستطع الصبي أن يمانعَ وامتطي الجرارَ وداسَ الزرع ولم توقفه وتنقذ حياتهُ سوى الترعةِ التي سقط فيها.

واقعيةُ الحياةِ تقضي بأن نقاربها كما هي، لا أكبرَ ولا أصغر ولكننا البشر لا نستطيع إدراكَ كل الحقائقِ في تصورٍ واحد فعلينا أن نقايسَ الأمورِ الأقربَ ثم الأقرب للواقع. تعلمنا في ممارسةِ هندسةِ النفط أن نصممَ أفضلَ تصورٍ لمكامنِ النفط ومشاكلها ومستقبلها بأن ننتقيَ القياساتِ الأكثرَ دقةً عن المكمنِ من ضغطٍ وحرارة ومساميةٍ ونفاذية وحجمَ الإنتاج والأداء وكلما كانت الأرقامُ أقربَ للواقعِ كان ناتجُ تصورنا عن المكمنِ الذي يبعد أميالًا تحتَ الأرضِ أقربَ للحقيقةِ وتمكنا من كشفِ أسراره.

يشبه المكمنُ مشاكلنا في كُلِّ يومٍ في جزئياتِ حياتنا التي تلزنا إلى صدرها دفعةً واحدةً فتكون مجتمعةً أكبرَ من حجمها الواقعي ولا نستطيع حملها وإيجادَ المهربِ المناسبِ منها، حتى أكل الكعكةِ يحتاج أن نقطعه إلى قوالبَ نستطع أن نهضمها واحدةً واحدة. تتحدانا الحياةُ كل يوم وتجمع لنا همومًا في العيالِ والاقتصادِ والوظيفةِ والصحةِ والسلامةِ والتعلم وكل ما تعني حياةُ إنسانِ اليوم وكأنها تبارزنَا في ساحةِ القتال. بعضُ تلكَ الهمومِ تذوبُ وحدها وبعضها يستدعي انتباهنا وبعضها نتركه لتصرفِ القدرةِ المطلقةِ في السماءِ وما بقيَ نعالجه واحدًا واحدًا.

تستعين وتستند المشاكلُ ببعضها علينا مثل حادي النوقِ الذي يَجِّدُ في مسراه حتى يُبعدَ العاشقَ عمن يحب ويصح عندها “تعاونَ البينُ والحادي على أجلي” وتتجمع غيومُ تلكَ الهمومِ لكنه من الرحمةِ أنْ ليس كل غيومِ الهمومِ تمطر ويجب علينا الاحتماءَ منها، الكثير منها تتفرق بعد أن أظلتنا بظلالها وصارت “ربَّ ضارةٍ نافعة”. نحتاج بعضَ الهمومِ التي لا تقتلنا في حياتنا كي تخلقَ عندنا بواعثَ للحياة، تشحذ هممنا وطاقاتنا العقلية فمن تلكَ الهمومِ تغلب البشرُ على كثيرٍ من مشاكلهم فهم من دونها مثل الصبيِّ الذي لم يخف يومًا في حياته وعندما خافَ لم يعرف كيف يجري هربًا من الخطرِ الذي يتهدد حياته!


error: المحتوي محمي