اليوم الأخير

من يصل لعمرِ ترك العمل لابد أن يغادر، هذه سُنّة الحياةِ وقوانين العمل. إن كنتَ من الذينَ سوفَ يقفلونَ البابَ خلفهم قريبًا فربما استفدتَ من تجربتي التي قاربت السنتين منذ أن كتبتُ كلماتِ الوداع. حتى وإن كنتَ صغيرًا فليس من الخطأِ أن تنظرَ بعيدًا في الزمنِ الذي يمر دونَ أن نشعرَ به. كنتُ في بداياتِ سني العملِ أحضرُ حفلاتِ الوداعِ لمن سوف يتركونَ العملَ وأقول لا، لن يحصلَ هذا لي، عندي سنينَ طويلة قبل وصولِ قطاري محطتهُ الأخيرة. دارت الأيامُ بسرعةٍ ورأيتُ الصغارَ يحضرون حفلةَ وداعي وعندهم ذاتُ الأحاسيسِ التي كانت عندي:

أولًا: استمتع بالحياة، سافر وكل واشرب والبس ولكن لا تكن تافهًا على حسابِ العقلِ والفكرِ والسلوك. كل عمر له تاجٌ يرتديه صاحبه على رأسه وأجمل التيجان ذاك الذي تظهر فيه حكمةُ الحياةِ ومفاخرها.

ثانيًا: لابد أن تتيقنَ وترضى أن عليكَ الترجلَ من الرحلةِ مهما طالت ومهما كانت ممتعةً أو مملةً، هي الأيامُ لا تبقى لأحد. اتركها وأنتَ تشعر بالرضا والأمل. عُدَّ نفسكَ في إجازةٍ مدفوعةِ الثمن وهي جائزة عمركَ الثمينة ولا تعتبر نفسكَ متقاعدًا تخلى عنه من كان يوظفهُ لأنه صارَ عجوزًا لا يستطيع عمل ما كان يستطيع عمله.

ثالثًا: لا تحسب حسابَ الأصدقاءِ كجزءٍ من رحلةِ بعد العمل. كل الأصدقاء يسيرونَ في مساراتٍ إلزاميةٍ في الحياةِ ويذهبونَ عند مفترقِ الطرق. جِدْ لنفسكَ أصدقاءَ جدد يمشونَ معك هذا الجزءَ الإلزامي من الحياة.

رابعًا: تعلمتَ الكثيرَ من الأشياءِ عندما كنتَ تعمل، لا تتركها كلها، خذ الجيدَ منها واترك ما لا ينفع. تحتاج أجسامنا أن تعرفَ ماذا عليها أن تقومَ به في نظامها اليومي دونَ أن نفاجئها بجديدٍ كُلَّ حين. سوف يكون لديك وقت أطول من ذي قبل، املأه بعملٍ يومي يأخذ شيئاً منه، حبذا لو كان شيئًا كنت تحب إنجازه ولم يتسن لك الوقتُ حين كنت تعمل. تعلم أشياءَ جديدة واعمل أشياء جديدة ولكن ليسَ من أجلِ المالِ إلا إذا كنتَ في حاجةٍ له.

خامسًا: سوفَ تتحرر من العملِ ولابد من وقتٍ أكثرَ للتواصلِ مع المجتمع، أعن وساهم وزر المقابر لكن لا تقرأ شواهدَ القبور فقط لتذكر الموتى من الأصدقاء، كل الناس يناديهم الربُّ في لحظةٍ ما لكن ليسَ حسبَ تاريخِ ميلادهم!

سادسًا: إن كانَ عندكَ أبناء وأحفاد أعد لهم بعضَ الوقتِ الذي سرقته منهم من أجلِ العمل يوم كانوا صغارًا. إعادة ذاك الوقت تعطيكَ أكثر من السعادةِ والمتعة.

سابعًا: ميزانُ الحكمة يقتضي أن تهتمَ بجسمكَ ومظهركَ وعقلكَ، وإن كنتَ من المؤمنين فلا تنس روحكَ التي تقربك من الربِّ وتبعث فيكَ الطمأنينةَ والرضا.

من بلغَ الستينَ من العمرِ لديه تجاربَ كثيرة، لا يعدم المرء أن يستفيد من طاقاته وخبراته من لم يمر بها. في مجتمعنا الأطباءُ والأساتذة والمهندسونَ والتجار والإداريونَ وكل الخبراتِ العملية، مرحى لمن يستطيع أن يشركها الآخرين مباشرةً أو يكتبها. في مجتمعاتٍ أخرى يتطوع الناسُ بأوقاتهم في أشياءَ صغيرة وكبيرة كلٌّ وطاقته ومعرفته ولا حسابَ للسنين!


error: المحتوي محمي