طفولة زمان، أو سمِّها الحياة البِكْر، أنعِم بها من حياة وأناس ورفقة، للصباح في بيت جدتي طعم يشتهى، لا يبارح الذاكرة أبدًا، وللمساء عبق الذكريات وحكاويها المعطرة بالحكمة والإلهام. لا أذكر أن الشمس طلعت على وجوهنا ونحن نائمون، نحن والعصافير كنا نسابق الشمس إلى بيت الجدة، كانت حياتنا وكنا من نصنع لها إيقاع الحياة.
تحت ظلّ دارنا تجلس جدتي على “حصيرة” في هدوء تكتّف هي أرجلها، وجهها يشع بالصفاء والتبسم والرضاء، نجلس نحن في صحن جلستها كممارسي اليوجا، أما الطير فتكثر حركته، لا أدرى هل أراد أن يشاركنا الجلسة أم أنه يبحث عن زاوية مناسبة يسترق من خلالها النظر.
في الصباح تجلس جدتي لتسُفّ “القٌفَة” ومثل ما تنسج سعفاتها الرقيقة وتلف جنباتها، تنسج لنا الحكايات. تسُفّ الخُوص و”المَديِت”، كانت تنسجها، وتنسج منها أيضًا سيل الحكايات، تدس في ثنايا القِفاف و”السوالف” خيوط المحبة والحكمة أيضًا، كنا نحب ما تصنع من كل منتوج، إذ أنه نسج بحب، كانت شغوفة بصناعتها وشغوفين بها كشغف أهل زماننا بالجوال والآيباد.
في ظل البيت ذي الرواشين العتيقة، كنا نملك سينما مجانية، شرطة دخولها أن نجلس في هدوء، تبدأ جدتى بقصص الصدق والأمانة، ثم كفاح الرجال من أجل أطفالهم، ثم الذين ماتوا شجعانًا، ثم الفتيات ذوات الحسن الباهر، والفتيان المغامرين.
ينقطع الحكي حين تُوفِد أحدنا لجلب شيء؛ فيصمت الحاضر، وينتظر في ترقب القادم حتى يأتي بما طلبت جدتي، كنا نلبي الطلبات خفافًا من أجل أن تستمر الحكاية.
ربما تعود جدتي لبداية الحكاية أو تصلها من حيث انقطعت لكنها دائمًا تفترعها بـ”كان ياما كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان.. ثم الصلاة على النبي محمد عليه وآله الصلاة والسلام”.
في المقيل تتوقف جدتي عن الحكي، فهي تؤمن وتبثنا هذا الإيمان أن “سواليف النهار” تجلب “السعالي”، فننتظر المساء، فتخرج جدتي كنوز ذاكرتها، وتفتح آيبادها المليء بالحكايا، يستمر العرض في ساحة بيتنا نطلب منها أن تحكي لنا حكاية: انتيف انتيفان والغولة التي غالت في فعلها، فاختطفت حسناء الهجر، لكن أصغر إخوتها الفرسان أنقذها بعد أن بتر رأس الغولة بسيف دق من الحجر.
حين تمل جدتي لا تقول ذلك صراحة، لكنها تختم بقصة تؤسس بها نهجًا لنتعظ به في النهار: فتحكي من إصدارات النهار حكاوٍ لها حكمتها فـ”السلعوة” وأبو دعيدع جان يظهر في المزارع والمقابر ويخرجان في المقيل، يأكلان المنفردين لوحدهم في الصحارى والهواجر، ولقد فهمت حينما رشدت أن جدتي تبثنا خوفًا كي نمتنع عن الحركة مفردين، أو يهدف ألا نخرج من البيت دون رفقة، فيتعرضنا ضعاف النفس، أو تمرضنا حرارة الشمس، أو نذهب إلى مكان يعرضنا للخطر.
تختم جدتي عرضها السينمائي من آيبادها بقصة تكون مثل القيد في المعصم تجعلك تنام مبكرًا، ولا تفكر في الخروج، تقول جدتي: إن أم حمار تخرج متى حل الليل تتبعها كلاب مسعورة، هي مسخ رأسها إنسان وأرجلها حمار، ينام في “الزرانيق” وتخرج لتدوس على الناس وتأكلهم، وهي قصة أيضًا تستخدم لتهديد الذين يقترفون سلوكًا غير مرضٍ في البيت، فيهددونه باستدعاء أم حمار أو أم الخضر الليف أو حمارة القايلة فيمتنع عن فعل الخطأ.
في زمان اللا جدة، ليس هناك حياة بهذا النحو، فالصبية الذين يدمنون ألعاب الفيديو وهم “متفشحون” في حضرة أهاليهم، ليس لهم من الخيال شيء، لا شيء يخوفهم ويعصون الأوامر حيث يخرجون متى يريدون، يثقب السهر وأضواء الهواتف عيونهم، وتسلب أصوات السماعات وضجيج الألعاب آذانهم، فهده الثمار الذابلة في جيلنا الحالي أبناء بعض الأسر مرتبكين أو يقل عندهم أساسيات الاحترام، مثلما يفتقرون لثقافة المجتمعات والتعامل مع الآخر، لكم أنا فخور أن جدتي كانت أفضل مدرسة من الآيباد والتطبيقات الحالية.