علبة صمغ

نقلت شاحنةٌ علباً من الصمغِ على طريقٍ في الريف. لم يكن الطريقُ معبداً، اهتزت الشاحنةُ وسقط منها علبةٌ من الصمغِ التي كانت تحمله. تسارعت وتفننت بقيةُ السياراتِ المارة في الطريقِ في تحاشي أن تدوسَ علبةَ الصمغِ خوفاً مما فيها ولكن واحدةً منها لم تستطع أن تتحاشاها. داست عليها ولدهشةِ الكونِ انفجرت العلبةُ وتطايرَ الصمغُ في لوحةٍ جماليةٍ مكتملةِ العناصر كانت خليطاً من جمالِ الفوضى التي انتثرت في كُلِّ مكان. تلونت السياراتُ والأشجارُ وانسابَ الصمغُ في الطريقِ في خطوطٍ أخطبوطيةٍ كاشفاً عن جمالِ ما خافَ منه كُلُّ الناس!

هكذا نحن البشر، نخاف المجهول وإذا مضى أحببناه. سبقت العقلَ الإلكتروني الروزنامات التي كنا نشتري واحدةً في مطلع السنة. كانت الروزنامة تختصر الحاضرَ والمستقبل في ورقةٍ صغيرة فيها سجل لأيامِ السنة وأحوال الشهورِ ومطالعَ الشمسِ والقمر. كان بعضها يحتوي على شيءٍ مكتوبٍ خلفَ كل ورقة نقتلعها، إما حكمةً أو حديثٍ أو طرفةً أو نكتةً نبتسم لها. كنا نقتلعها واحدةً واحدة لا نرغب أن نعرفَ ما تحويه ورقةُ اليومِ التالي فإذا جاءَ اليومُ التالي قرأناها ثم رمينا الورقةَ في الهواء مهما كان فيها، لم تعد تحمل سراً بعد ذاكَ الحين.

ليست حياتنا إلا خليطاً من علبِ الصمغِ وأوراقِ الروزنامات التي نقطعها كل يوم ثم يدوسها القدر في خليطٍ من الفوضى المنظمةِ المقررة التي ما كان في وسعنا إلا أن ندوسها وتنثر في وجوهنا كُلَّ ذاكَ الخليط. من عاش عشرينَ سنةً رمى في الهواء ما يقارب ٧٣٠٠ ورقةً بما فيها من الحكمةِ والقدرِ المجهول من أسرارِ الحياة ومن عاش ثمانين سنةً رمى حوالي ٢٩٢٠٠ ورقة، أوراقٌ كثيرةٌ ولكن الإنسانَ يبقى أبعد مما يعرف كيف سيكون الغد. جمالُ الأيامِ في المجهول الذي ننتظره، حتى ساعة الموت تحوي شيئاً من الجمال. فيها تنتهي كُلُّ المجاهيل ويعرف البشرُ أي مفترقٍ من الطريقِ فيه يذهبون.

لا تحمل الأيام هذه البساطة وليس كل قادمٍ فيه كمالُ الغبطةِ والسرور وربما كان في العلبةِ لوحة من الكآبة لكن تبقى العبرةُ في أن ندفع ما نستطيع دفعه نحن البشر في قوانا الرمزية وما لا نستطيع دفعه تدفعه قوى الغيب الحارسة، يبقى الأمرُ في “كُتبت علينا”:

عجبتُ لمن يقيم بدارِ ذلٍّ
وأرضُ اللهِ واسعةٌ فضاها

فذاكَ من الرجالِ قليلُ عقلٍ
بليدٌ ليس يدرى ما طحاها

فنفسك فز بها إن خفتَ ضيماً
وخلي الدارَ تنعى من بناها

فإنك واجدٌ أرضاً بأرضٍ
ونفسك لاتجدْ نفساً سواها

مشيناها خطاً كُتبت علينا
ومن كُتبت عليه خطى مشاها

ومن كانت منيتهُ بأرضٍ
فليس يموت فى أرضٍ سواها


error: المحتوي محمي