الاحتيال والاستثمار

الاحتيال، مصدر احتال وجمعه احتيالات، والمُحتال من يبتز مال الغير بالخديعة، وهو مأثوم شرعًا ومجرّم قانونًا، والاحتيال أنواع منه؛ احتيال “الاستثمار”، وهو حديثنا هنا.

عادة المحتال يكون بارعًا في طرق الاحتيال، يتميز بطلاقة اللسان وأسلوب تعامل لم يستخدم من قبل، وعارف بلغات القوم ولهجاتهم، ويستعرض بمظاهر مغرية من ملبس، سيارة، مكتب، العطاء والكرم، وأكسبته الخُبرة بما لا يترك مجالًا إلى تكذيبه أو الشك في أن مفاتيح الجنان وأقفال النيران بيده، ومن ينصحك بالابتعاد عنه تحسبه حاسدًا لك ومخرّبًا.

يملك عدة وسائل يستخدمها لاصطياد ضحاياه، إذا جاء للمتدين واجهه بالفتاوى الشرعية والأحاديث النبوية وتكلم عن الحلال والحرام، قال رسول الله ورُوي عن النبي (ص) إلى أن تخاله الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه، وإن قدمت له ماءً يسألك قبل شربه: مدبوح على الطريقة الإسلامية أو لا؟

وإن كانت الضحية من أصحاب الغرائز، خصوصًا غريزة حب المال، فتح له أبوابًا وطرقًا للمغريات، حتى إبليس يحتاج أن يلازمه سنين ليتعلم منه بعض الدروس، يتحدث عن الأملاك وهو في إملاق، يقتنع الضحية ويُخيل إليه أنه يسعى لمصلحته، ومن الخطأ للضحية أن يفوّت عليه فرصةً العمر، وقد يظن أن هذا المحتال ملَك أرسله الله تعالى برزق له، فإذا ما استحوذ على بعض أمواله وأغراه ببعض الأرباح مرة أو ثلاث وآمن المسكين من حُسن المعاملة وتأكد له صدق صاحبه، وهي وهم، سلب منه جميع ما بقي من ثروته، بعدها يبدأ بالمُماطلة؛ أين الأرباح؟ تأخرت، كانت كل شهرين الآن مضت أربعة، سنة.

يجد في البداية حلوَ الكلام، وأحيانًا يسلمك شيكات لضمان حقك، وهي بدون رصيد، وعلى حسابات مقفلة أو مزورة أو من أشخاص لا علاقة لهم بالموضوع مع اتفاق بينهم لتقاسم ثروتك، أو مُبلغ البنك عن سرقتها، ليستخدمها ضدك فيما بعد وتُجبر أن تتنازل عن حقوقك لأنك تحولت إلى مجرم وتكون ضحية من جديد.

بعدها تشتد لهجته معك، إلى أن يختفي وتُراجع مقره الفاخر، فتجد الديار خالية، وحساباته في البنوك خاوية، وسيارته مستأجرة، وصاحبك إما في السجن مضيّف أو خارج البلاد مضيّع.

كثر في السنوات الأخيرة المحتالون وتنوعت عناوين الاحتيال ووسائله عندهم والهدف واحد، والمجتمع حاليًا يعج بضحاياهم، حتى أصبح حديث الساعة، وساعدهم بسطاء العقول، (وللأسف بعضهم محسوبون عقلاء) ومن لا خبرة له في التعامل بالتجارة والمال والقانون وثقافة الاحتيال.

أعرض نموذجين من الاحتيال، الأول شركة استثمار وهمية (غير مرخصة) تستثمر في مجال العقار كما تزعم، تبني وحدات سكنية وتبيعها وتوزع أرباحها على المساهمين.

قام من يرغب في استثمار أمواله بدفع مبلغ، وفعلًا أعطوه دفعتي أرباح، بعدها قالوا توسعوا في المشروع، ومطلوب منه أن يرفع مساهمته إلى ثلاثة أضعاف، أسوة بباقي المساهمين، فاستجاب لطلبهم ودفع، تأخروا عن دفع الأرباح كما هو متفق، دخل معهم في نزاع وطالب بإعادة رأس ماله، عرضوا عليه شقة في عمارة لا يعلم لمن ملكيتها، قيمتها تعادل ربع رأس ماله المدفوع لو كانت كاملة التشطيب، وهي ليست كذلك، إن قبل بها عن كامل مبلغه كما هي أو لا شيء له، وليفعل ما يريد، ولا تزال المشكلة قائمة بينهم حتى كتابة هذا، وأنا أراه محظوظًا إن صدقوه، ومتأكد لن ولم يصدقوه، لتجربتي مما مرني من مآسي.

الثاني؛ مستأجر بيت، عمل له صيانة، بعد أشهر عرضه للبيع سرًا على أنه بأمر من مالكه، فجاء من يشتري عن ثقة وحسن نية فوجد مع المستأجر رجلًا لا يعرفه على أنه صاحب البيت وغيره اثنان، وافُهم أنه لا داعي لتحرير مبايعة من مكتب عقاري توفيرًا لمبلغ السعي، وتكفي للإثبات ورقة مُشهّدة، اشترى، وعند دفع المبلغ بشيك رفض البائع، وطالب بالسداد نقدًا لأنه لا يثق في الشيكات، فاستجاب له وسلمه نقدًا.

بعد استلام المبلغ اختفى، والمستأجر يساير المشتري بالكلام المعسول والمواعيد الكاذبة للإفراغ، وبعد اليأس اشتكى، وأُحضر مالك البيت وإذا هو غير من رآه ووقع المبايعة واستلم المبلغ، ولا علم له بالبيع، المستأجر أنكر أن تكون العملية من تدبيره أو حصلت في بيته أو يعرف من كتب المبايعة أو المشتري والشهود، وانتهت بالمثل القائل “ضاعت فلوسك يا صابر”.

إن كنت ترغب في الاستثمار وزيادة رصيدك المالي أو تحسين وضعك المعيشي، قبل أن يُغرِر بك المحتالون ويسلبوا منك أموالًا في ساعة، جمعتها في سِنين، يوهموك بأرباح ويقدموا لك طعمًا في بدايتها ليصطادوا ما بقي عندك منها، عليك ان تفهم وتعي؛ أولًا: أنت في بلد قانون، وضعت لكل نشاط قواعد وأُسسًا وضوابط يلتزم بها كل من أراد العمل فيها بموجب تراخيص تصدرها الجهات المعنية بالنشاط، ومنها أنشطة الاستثمار، لا يحق لمن يمارس نشاط الاستثمار في أموال الغير إن كان فردًا أو شركةً إلا بترخيص رسمي، ولا تُعطى الجهة الطالبة للترخيص إلا بضمان حقوق المساهمين، ومن حق من يساهم الاطلاع على الترخيص والقانون المنظم له وشروطه.

ثانيًا؛ إسأل وشاور أهل الاختصاص وأصحاب الخبرة الذين تثق بهم قبل المشاركة، ولا تعتمد قول صديق تعامل معهم لفترة قصيرة، قد يكون ضحية ولكن ما حان سلخه بعد، لأن ضرعه لايزال يدر حليبًا.

ثالثًا؛ بعد التأكد من نظامية المستثمر لأموال الغير، على من يريد استثمار أمواله أن يطلب العقد المراد التوقيع عليه ويعرضه على قانوني ويأخذ رأيه فيه وما مدى صحته قبل التوقيع عليه، وبعد التوقيع تذهب أنت شخصيًا وتصادق عليه من الغرفة التجارية، وتطلب صورة السجل والترخيص لأنك تحتاجها فيما بعد، بعدها تدفع المبلغ.

رابعًا؛ على صاحب المال أن يضع نسبة مخاطر لرأس ماله، مقارنة بالربحية، فإذا كانت نسبة الأرباح الواعدة10% سنويًا، يمكن أن تكون المخاطرة بنفس النسبة، أما إذا كانت نسبة الربحية 50% فهذا يعني أن نسبة المخاطرة قد تزيد على 90٪، لذا على صاحب المال أن يدخل في أقل مخاطرة وإن قلت نسبة الربح، أكثر ضمانًا لرأس ماله، ولا تغريه ارتفاع نسبة الأرباح ويضيع عليه رأس المال بكامله.

خامسًا؛ لا تدفع نقدًا أو تحويلًا لفرد أو شركة، بل ادفع المبلغ دائمًا بشيكات باسم من وقعت معه العقد، وأن يُصرف الشيك للمستفيد الأول، منعًا للتلاعب، وتشرح على أصل الشيك لماذا المبلغ؟ وتحتفظ بصورة منه للحاجة، وفي المقابل لا تقبل أرباحًا أو إعادة رأس المال تحويلًا أو بشيكات سحب غير من تعاملت معه، لأنها قد تكون خدعة لهجمة مرتدة تدفع ثمنها فيما بعد وأكثر.

سادسًا؛ تعاملك مع جهات مجهولة غير مرخص لها رسميًا بممارسة النشاط الذي تتعامل فيه يعرضك لمخاطر: (1) ضياع أموالك وإن سُدد لك البعض على شكل أرباح تأكد أن النسبة العظمى من رأس مالك لن تعود إليك، (2) يمكن أن تُحول أموالك لدعم الإرهاب أو تُستخدم في غسيل الأموال، وهذه جرائم كبيرة يعاقب عليها القانون بشدة ولن تعفى منها ولا ينفعك عدم العلم بها، أنت شاركت بأموال مخالفًا للنظام، (3) من يأخذ أموالًا وهو مخالف لنظام المهنة قد يعبث بها ويصرفها في أعمال أخلاقية مشبوهة، ومحرمة، ومنكرات مخالفة للشرع والقانون، (لأنه لا يحسب أن يعيدها لأصحابها) فتكون أنت مأثومًا شرعًا، وتحت المحاسبة قانونًا لأنك من مكّنه، بالإضافة لضياع أموالك.

احذر أن يأتي يومٌ تقول واحسرتاه على ما فرطت في أموالي.


error: المحتوي محمي