بغصة عشرات السنين بكى تاريخه الذي فقده في ليلة سفر، بعد أن اقتحم لصوص بيته ومزقوا ذلك التاريخ، وتركوه مبعثرًا على سريره، وبعبارة: “لا تذكروني بأحزان الماضي”؛ انطلق السيد زكي المدلي في الحديث عن تلك المأساة التي وصفها بـ”الدمار”.
المدلي المنحدر من بلدة التوبي، مصور قديم، مارس هواية التصوير منذ عام 1978م، جمع خلال رحلته الفوتوغرافية 10 آلاف صورة، لمناطق مختلفة من نواحي القطيف، ما بين مزارعها وعيونها وأزقتها وبيوتها، وحتى حالات فرحها ولعب أطفالها.
البداية
طفل لما يتجاوز الـ12 من عمره، لفت انتباهه أحد الأجانب من الآسويين الذين يعملون في شركة أرامكو السعودية وشركة أوتاك الكورية بمشروع المجاري في القطيف، وكان ذلك العامل كوريًا الجنسية، ودائمًا ما يصادفه في مزرعتهم أو ما كان يعرف وقتها بـ”النخل”، وفي إحدى لقاءاتهما طلب منه ذلك العامل التقاط بعض الصور بكاميراته، فتناول المدلي كاميرا الكوري بكل فرح طفولي وبدأ في التقاط الصور، ليفاجأ بعد أسبوع بالصور التي التقطها وكانت لمجموعة من أولاد قريته بينهم ذلك العامل.
لم يكتفِ “الكوري” بإيصال الصور للسيد زكي وحسب، بل قال له بلكنته العربية المكسورة: “أنت فنان في التصوير”، تلك العبارة رغم كسر عربيتها إلا أنها كانت بذرة ولادة الهواية في نفس ذلك الطفل.
أربعة قروش لا تكفي!
بعد تلك المجموعة من الصور، قرر المدلي شراء كاميرا خاصة، فبدأ بجمع “خرجيته”، وقد كانت أربعة قروش فقط، وهو مبلغ سيمتد به وقتًا طويلًا لو اكتفى بجمعه فقط، حتى وإن لم يصرف منه قرشًا واحدًا.
فكر في طريقة لزيادة دخله، ولم يكن أمامه إلا أن يشتغل حمالًا في سوق الجبلة، والتي تحولت الآن إلى مواقف وسوقًا للخضار والسمك.
وفعلًا بدأ في تنفيذ قراره، فأخذ عجلات وبدأ بصنع عربة “تعرف عند العامة قديمًا عيربانة”، يقول: “رؤية تلك العربة كانت بمثابة تحقق الحلم، فقد كنت أرى الكاميرا تتدحرج أمامي كلما بدأت في دفعها وسط السوق”.
حلمه في “عمارة سيكو”
كروة الحمال كانت ريالًا واحدًا فقط عن كل مشوار، والحال لم يكن واحدًا، فإما أن ترجع بيتك وجيبك ممتلئ أو تعود وجيبك خالٍ أو قد يكون ما بينهما فلا هو في امتلاء ولا خلو.
يعود المدلي بذاكرته إلى تلك السنوات، ويقول: “كان بإمكاني أن أجمع خمسين ريالًا في يومٍ واحد، عن عمل ساعات تبدأ من الفجر وتنتهي في الظهيرة، وقد أعود أيامًا صفر اليدين”.
ويضيف: “بعد قرابة الشهرين استطعت أن أجمع 150ريالًا، وتوجهت بعدها إلى الدمام، وفي عمار سيكو، وجدت حلمي جالسًا على أحد الأرفف، لقد كانت كاميرا كوداك فورية”.
رفيقةٌ تختلس اللحظة
بدأ يمارس هوايته متجولًا في أغلب مناطق القطيف، يوثق كل ما يوقظ روح المصور بداخله، إلا أن الحال في ذلك الزمن لا يشبه ما نحن عليه الآن، فقد كان مجبرًا على التقاط صوره خفية، فمجتمعه حينها لم يكن ليقبل بأن يكون انعكاسه داخل عدسة كاميرا، أو مطبوعًا في صورة فورية، أو غيرها، إلا قلة من أبناء تلك الأعوام.
يذكر ذلك بقوله: “كان التصوير حينها خُفية، ولم أكن أجاهر بوجود الكاميرا إلا عند من أثق بهم”.
ويستذكر موقفًا كان يصادفه في الكثير من جولاته قائلًا: “أحد رجالات بلدتي -حفظه الله- كان كلما رآني يقول لي: “لا تصور”، وكان ذلك من باب المزح، حيث إن العبارة حينها لابد أن تصادف كل من ترافقه كاميرته في جولاته”.
البناء يحقق حلم الـ“أوليمبوس”
لم يكتفِ بكاميرته البسيطة، وصورها الفورية، بل كان يطمح أن يقتني ما هي أفضل منها، وكان دائمًا يحدث والدته -رحمها الله-: “متى أكبر كي أشتغل في البناء مع البنائين في التوبي”، وحين سمعه أخوه الأكبر السيد طاهر المدلي، استنكر ذلك نظرًا لتعارض عمله مع أوقات المدرسة، إلا أن سيد زكي اقترح أن يعمل في البناء أيام الخميس والجمعة، وفعلًا تحقق له ما أراد.
ولكن لماذا هذا كله؟! لقد كان يحلم بكاميرا فيلم بدلًا من الفورية، وحتى يشتريها لابد أن يتوفر لديه أكثر من ضعف مبلغ رفيقته الأولى.
عمل المدلي في عمر الـ15 في البناء وكانت الكروة حينها خمسين ريالًا، ومائة ريال للصبية، وجمع الفلس على الفلس حتى تمكن من جمع المبلغ الذي سيحقق به حلمه الجديد، وقد اشترى كاميرا كوداك فيلم.
جاهد بعد ذلك ظروف الطقس بحرارته وبرده، وهو يواصل العمل في البناء كلما حظي بإجازاته المدرسية، وحين ازداد العمل في البناء ارتفعت كروته إلى مائة ريال، بدأ في ادخارها إلى أن تمت الحصيلة 500 ريال، اشترى بها كاميرا أوليمبوس، وهي كاميرا تشبه الدجيتال، تكرر الفيلم 72 صورة، وقد كان حريصًا حينها على التقاط الصور كي لا تنفد منه.
تحميض ومكافآت
ولأن كاميرتيه الجديدتين لم تكونا فوريتين فقد كان مضطرًا إلى الذهاب إلى القطيف كلما انتهى أحد أفلامه ليظهره “يحمضه”، وقد كان تحميض الصورة وقتها -حسب كلامه- بريال واحد، وكانت العملية صعبة جدًا، وأما سعر تحميض الفيلم كاملًا فقد كان يكلفه عشرة ريالات، وحتى يقوم بإظهار جميع الأفلام كان يأخذ وقتًا طويلًا حتى يجمع المبلغ كاملًا.
يقول: “كان التحميض في استديو أبو السعود، وكان المصور فيه شاميًا، لا أتذكر جيدًا إن كان سوري أو لبناني الجنسية، وقد كان يتعاطف معي، ويعطيني أفلامًا مجانية، لأنني أتعامل معه كثيرًا.
وشبه موعد تسلم الصور بيوم العيد عنده، خصوصًا إذا لم تخرب الأفلام أو بعض الصور.
إحساس يقرأ التغير
يقول المدلي: “كنت أنظر إلى مستقبل المنطقة على أن وجهه سوف يتغير كليًا من البحر والبر، لذلك كنت أصور كل ما وقعت عليه عيناي، من عيون وسدود وألعاب شعبية مثل التيلة والطنقور والطير، والبيوت القديمة مثل قلعة القطيف وتاروت ودارين والأوجام ومسجد النبي اليسع الذي هدم، والنخيل كشارع الهدلة الآن وشارع أحد”.
ويضيف: “صورت أيضًا محلات الصفافير، والحدادين في سوق مياس وهو الآن مجمع الخنيزي”.
جولات بـ”هوندا”
يقول: “مناسباتنا قديمًا لم تكن تختلف في أيام الحر الشديد أو البرد القارص، فقد كانت الزفة في الزواج قديمًا تقام في وقت العصر، وقد كان يستخدم فيها الحمير، أما الخيل فقد كانت للمقتدر، وكانوا يذهبون إلى عين داروش بصفوى”.
كل ذلك صورته بدباب هوندا، كما التقطت صور أول زواج جماعي في التوبي وكانت مناسبة خاصة بالنسبة لي فقد كان بين المتزوجين أخي وأبناء خالتي.
موت التاريخ في ليلة سفر
جمع المدلي 10 آلاف صورة، بين مناظر وطبيعة وألعاب شعبية وأحداث تاريخية ومناسبات اجتماعية، وفقد 85% منها في ليلة سفر.
يذكر لـ«القطيف اليوم»: “في عام 2002 كنت مسافرًا، واقتحم اللصوص بيتي وسرقوا ما سرقوا من ألبومات الصور، ومزقوا 8500 صورة، شعرت حينها أن تاريخ القطيف هو الذي تمزق ومعه جزء من قلبي”.
ويتابع: “لم يتبق لي غير 1500 صورة، كرهت بعدها التصوير، كما أن تغير أحوال المنطقة، وغياب الكثير من العادات ساهم في أن أترك هذه الهواية وأتخلى عنها”.
السيد زكي المدلي في سطور
– الاسم: سيد زكي علي هاشم المدلي
– من مواليد 1386/1966 في قرية التوبي/ السادس بين أخوته.
– بدأ دراسته متأخرًا في عمر الـ9 تقريبًا.
– حين التحق بالمدرسة كان حافظًا للقرآن متمكنًا من الكتابة.
– لم يكمل تعليمه نظرًا الظروف المعيشة.. حصل على شهادة المتوسطة والثانوية (انتساب) حتى الصف الثاني الثانوي.
– عمل في شركة الاتصالات السعودية STC، وتقاعد بعد خدمة 24 عامًا.