أيادٍ مخملية

لم تكن الستيناتُ والسبعيناتُ من القرنِ الماضي رحيمةً بنا نحن الصغار، لم يكد يعطينا ناظرُ المدرسةِ ناتجَ السنةِ الدراسية حتى فرضت علينا الحاجةُ أن نعملَ مع الكبارِ قبل أن نبلغ بعد الحُلم ولم تقوَ أجسادنا على العملِ المضني. قبيل انتهاء فصلِ الصيف كان العمل مع العائلةِ في صرم تمرِ النخيل. لم يكن العملُ شاقاً بقدر ما كان مرحًا لنا، نفرحُ بالرحلةِ مع الوالدِ والوالدة وبقيةِ الإخوةِ والأخوات. يوفر محصولُ التمر وجبةً لبقيةِ أيامِ الشتاءِ الباردة حولَ نارِ الكانونِ في المساء وما لا ينفع منه للإنسانِ ينفع للحيوان.

كبرنا قليلًا وحينَ انفجرت الحاجةُ للعاملِ الذي لم يكن موجودًا في قفزةِ البناء، وجدنا ضالتنا في ورشاتِ البناء مع قدامى العمالِ من القرى والمدن. كان الدخل حينها وافرًا، ثلاثونَ ريالًا ليومِ عمل، فإذا انتهت إجازةُ المدرسة كان عندنا ما يكفي من المالِ لبعض الملابسِ والأشياء التي يحتاجها الشابُّ في ذاك الزمن.

كانت الأعمالُ وافرةً وكنا نطلبها إن لم توجد، نبحثُ عنها في الدمام والخبر والظهران مع الشركاتِ الناشئة أو في أعمالٍ بسيطة عند من يحتاج حيث كنا. جاءت نهايةُ السبعينات وعملنا فتراتِ الصيفِ مع شركة أرامكو في الظهران وفي رأس تنورة. كان عمل الصيف شاقًا ومرهقًا في الصغر، جد لي صبيًا لا يحب اللعب! لكنها زرعت فينا الأحلامَ والتطلع نحو المستقبلِ الأفضل ومزج الدراسة بالعمل.

لا تحصل الفرصةُ لكل الناسِ أن يتفرغوا للدراسةِ دونَ عملٍ كما هو اليوم في مجتمعاتنا، وتختزنُ ذاكرتي أسماءَ كثيرٍ من الطلاب في الجامعة الذين كانوا يعملون بعضَ اليوم ويدرسونَ بعضه وكانوا من المرموقينَ في الدراسة. كان المال شحيحًا عند بعضهم ولم يكن عند آخرين. ليس جدلًا أن الشبابَ يختزن طاقةً كامنةً ولا يقتله قليلٌ من العملِ في وقتِ الفراغ وربما نفعه في تجاربَ صغيرة في حياته يجمعها في طريقهِ لمرحلةِ الشباب. لا تركن إلى الأيامِ فليسَ غريبًا أن تعودَ الحاجةُ للعملِ في الصيفِ أكثر إلحاحًا. الزمنُ ودورةُ الحياة يشبه العجلةَ التي يتكرر فيها موقع المجتمعات مع مرورِ الليالي والأيام، الشدة بعد الرخاء والرخاء بعد الشدة.

من الظلمِ أن يتشابهَ كُلُّ الأجيالِ في الطباعِ وطريقةِ العيش، لكن لابد لكلِّ جيلٍ أن ينثرَ في الأرضِ بذرة النجاح في سنواته الأولى من حياتهِ التي يستطيع بعدها أن ينمو ويكبر. من الظلم أيضًا أن نقولَ نحنُ عن أبنائنا غير ما كتبنا نحنُ في صفحاتهم بأقلامنا وربما حميناهمْ كثيرًا مما ينفعهم. انفرط عِقد كثير من المجتمعاتِ والدولْ وألزمت الحاجةُ أن ينصرفَ الصغارُ عن المدرسةِ، ذلك الخطرُ الذي سوف يظهر نتاجه بعد أن تصمتَ المدافعُ وينامُ غبارُ المعركةِ على مستقبلٍ مجهول!

تتمرد روحُ الشبابِ مع الفراغِ والراحة وتبتهج حين تكون مشغولةً بما ينفعها. لا يكفيها أن تأكل وتشرب ثم تنام في حظائر الشياطين.


error: المحتوي محمي