يأتي يومٌ تحتجُ فيه حروفي وتمتنع على الاجتماعِ وترفض الآلةُ كتابةَ هراء الثُمالةِ الباقية في كأسِ أسفلِ العمرِ الذي يظن من يصبها أنه يملأُ أهراءَ الفقراءِ بالحنطةِ لكنه لا شيءَ سوى نفخ في الهواء.
ينسل الوقتُ من البشرِ مثل انسلالِ الظلِّ السريع ويندثر مثلَ الأطلالِ التي نبكيها. ربما أحيا الحبُّ والزمنُ الأطلالَ وبناها ولكن الزمنَ ذاته لا يعود وعلينا الاستفادة منه، من هنا يضع الناسُ والشركات والمجتمعات قيمةً للوقت يرتد فيها بالنفعِ المحسوب وإلا بقوا أمواتًا يصطفونَ مع الأحياء.
في ذات الوقت تتلهى كثيرٌ من المجتمعاتِ بالوقتِ كأنها تنزف من مخزونٍ لا ينضب وعليها أن تُسأل:َ ما قيمةُ التلهي في هوامشِ الحياة؟ِ بينما يجب عليها أن تدرك أن مناقشةَ الهوامشِ لا تجلب لهم الصحةَ أو الوظيفةَ أو التعليم أو حتى الدينَ الذي يكون في العادةِ المادة التي تغذي ترفهم في ضياعِ الوقت!
ليس أكثر من ديننا نحنُ المسلمين في الحثِّ على الانتفاعِ بالوقت وكأن كلَّ فردٍ يجب عليه أن يلبسَ ساعةً في معصمه. يطالبك الدينُ بملاحظةِ الوقتِ خمسَ مراتٍ كل يومٍ في صلاتك وكل شهرٍ في النظر إلى الهلال ومن ثم شهر للحج وشهر للصوم، مواعيدٌ لا تنفك تشبهُ ألأجراسَ التي تدق كُلَّ حين وتقول لنا: قوموا استقبلوا ما هو آتٍ ودعوا ما فاتَ فهو ليس إلا للعبرةِ والعظة وتصحيح الأخطاء.
لو استبدلت المجتمعاتُ حماسها في ضياعِ الوقتِ للبناء ربما شيدوا ما لم يستطعْ الفراعنةُ بناءه وأشعلوا من المعرفةِ ما لا يستطيع الزمنُ إطفاءه. في ضياعِ الوقت نبقى جامدينَ مثل التماثيل ونستيقظ على سؤالِ الوقتِ لنا كم عاطلٍ اشتغلت يداه؟ وكم جاهلٍ تعلم؟ وكم مريضٍ تعافى؟ وكم خزنا وادخرنَا من ثروةٍ لمن يأتي بعدنا؟
يسير بنا الغدُ إلى مطارحَ نجهلها نحنُ البشر مهما عملنا وتقلباتِ الحياةِ لابد أن تحملَ في طياتها صعودَ جبالِ الرقي وهبوطَ أوديةِ القناعة بما أنجزنا وتكمن قيمةُ وقتنا في أن يكونَ الرافعةَ لنا عندما نكون في الوادي. ليست الحياة كلها جد وكآبة، هناك وقتٌ تنصرف فيه الروحُ عن آلامها، تسأم وتمل وتحتاج الفرحَ والمرح وبعدها كل ما نكتب وكل ما نقرأ وكل ما نجادل ليس لعبًا!
يمر الوقتُ على البشر مثل النارِ التي تجذب الفراشات، يتهافتونَ فيها ويحترقونَ حيث من الأجدى لو كانوا نحلًا تحثهم نارُ الوقت على التغذية وصنعِ العسل. ليس خطأً عندما نحتج أن ليسَ لدينا وقت لعملٍ ما، نحن لا نخزن الوقت ولا ندري متى ما تفرغ جعبتنا منه ونرحل. الوقت كان قبلنا وسوف يكون بعدنا لكننا نحن من يترك الوقتَ ويذهب وعندما نذهب سوف يطول الوقتُ أيَّ جهةٍ من السور الفاصلِ بين الجنةِ والنارِ كان منزلنا.
التلهي بالوقت ينبئ أن المجتمعَ لا يستطيع هضمَ الخلاف ودفن بقاياه بسرعة ولكن يبقى يجترهَا في معدته لمدةٍ طويلة. لو أشعلنا الخيالَ فرأينا ملكَ الموتِ يسأل صاحبَ المال: هل تعطي نصف ما تملك من الذهبِ وتبقى ساعةً على الأرض؟ سوف يكون الجواب: خذ مالي كله ودعني أبقى نصفَ ساعة أو أقل، فهلا حافظنا على أعمارنا!