رسول السماء والأنبياء

يمر علينا يوم المعلم وكأنه يومٌ غريب، كغربة صاحبه بيننا ويا للأسف، هذا المعلم الذي يسكن بيوتنا، وقلوبنا، هذا المعلم الصاحب الذي نقرأه في كل كتاب، ونتلمسه في حروف الأبجدية، ومعادلات المواد العلمية، وأوزان حركات اللغات على اختلافها.

هذا الغريب القريب قرب الأب والأم، والغريب القريب قرب الأحاسيس والمشاعر، هذا الذي يسهر حين ننام، وينام وعينه مستيقظة، هذا الذي يتعب حيث نرتاح، ويرتاح حين ننجح، وينجح حين نحقق الأهداف ونصل للتفوق الذي كان هو سببه الأول بفضل الله تعالى.

أيها المعلم الجليل التمس لنا العذر، وأنت الذي علمتنا كيف نعتذر، واطلب لنا الغفران وأنت الذي أرشدتنا لرب المغفرة والرضوان، واقبلنا متصاغرين، وأنت الذي أوصلتنا إلى العلياء والكبرياء لنكون من الكبار، أطباء وعلماء وفقهاء وحكماء وقادة ومهندسين ومعلمين.

كيف نستطيع الخلاص من حقك، بل كيف نوفيك إيـَّاه ونحن نراك، وقد شاخ جهدك، وتقوس تعبك، كل ذلك من أجل أن نكون على ما نحن عليه.. أتكلم أنا عني وقد قاربت عمر الشيوخ، ولا أدري هل بعضك لا يزال حيَّا، فإن كان فاقبلني معتذرًا أيها المعلم الرسالي، ولا تؤاخذني على جهالتي وتقصيري.

وإني الآن أذكرك؛ أذكرك حيث يدرس أبنائي عندك، وإن لم تكن بشخصك، ولكن بشخص آخر يحمل اسمًا غير اسمك، فلم يختلف غير العنوان، ولكن الرمز هو الرمز لأنك معلمي ومعلم أبنائي فأنت لست شخصًا اعتباريًا، أنت صفة خلاقة، تمامًا كما الحب، وكما الإخلاص والمودة والتفاني، فلا تشيخ ولا تضعف رغم ما يعتريك على مدار النكران والإجحاف والتقصير.

أيها المعلم الجليل رأيتك مرة أخرى في شخص الرائد المدرسي الفذ الأستاذ/ محمد الزاير والذي كان قائدًا لمدرسة الشاطئ الابتدائية النموذجية والتي نالت التميز على مدار سنوات بفضل حنكته وقيادته، حين التحق ابني البكر عبدالله بها قبل اثني عشر عامًا وهو الآن في السنة الأولى بالجامعة – ولله الحمد – وكيف أصف هذا الرجل والذي خسره التعليم على مستوى الوطن وقد ترجل باكرًا، وأخال أنه لا يوجد مكان يستوعب قدرة هذا الرجل المعطاء وإمكانياته، وهو الذي كان يتقـد طاقة ونشاطًا وهمة.

هذا الرجل لم يكن إنسانًا فقط، بل كأنه رجل من عالم آخر أنعم الله به علينا، ولكن لم نعرف قدره لنحرص على وجوده واستمراره حتى بلوغ سن تقاعده الرسمي، وإني لأعجب كيف أن جهاتنا التعليمية لم تستطع ثنيه عن التقاعد، بل أعجب أكثر حين لم تستدعيه لتستفيد منه بين جنبات مكاتبها التي تحتاج أمثاله، فشكرًا لك يا أبا خديجة على ما كنت وما أنت عليه، وسلام عليك سلام المحبة والتقدير والشكر.

وقد رأيتك أيها المعلم وفي نفس المدرسة في شخص المتواضع تواضع المؤمنين الأخ الأستاذ علي الحوار والذي نطق ولدي عبدالله الحروف أول ما نطقها صحيحة على مسامعه وأمام عينيه وعطفه ومحبته، هذا النموذج الآخر، والذي تعجب حقيقة كيف يستطيع أن يحافظ على علاقته بتلاميذه رغم ابتعاده عنهم، بل والأعجب هو تأصيل علاقته بآبائهم أصالة الصداقة والأخوة، وها أنا ذا أضرب المثال بنفسي حيث لا تزال علاقتي بهذا الرجل ممتدة إلى الآن ويحرص على دعوتي في مناسباته، وهو دائم السؤال عن عبدالله وكأنه ابنه، ولا عجب، فلقد كان هو الوحيد الذي خصصت له المدرسة فصلًا نموذجيًا مختلفًا عن بقية الفصول كتجربة في طريقة التدريس، مع اختلاف بعض المواد وحتى الكراسي والطاولات، وكان أن تخرجت على يديه النخبة من الطلاب، وليته يعلم الآن ومتأكد أنه يعلم أن جميع طلبته في الأول ابتدائي قد واصلوا دراستهم الجامعية، والفضل بعد الله تعالى يعود لإخلاصه لمهنته، ووفائه لوظيفته، وصدقه في تعامله، ونحن ندعوا له بالتوفيق وطول العمر، وأن يستمر في علاقته معنا ودعوته لنا في كل مناسبة، وألا يؤاخذنا إن نسيناه ذات نكران للجميل، فعند الله لن ينسى عمله الحسن تبارك ربي وتعالى.

وإني رأيتك أخيرًا وأراك كل يوم أيها المعلم في شخص المحترم الأخ والصديق الأستاذ السيد موسى الخضراوي، هذا الإنسان الساحر بأخلاقه، والكبير بملكاته، والعظيم برسالته، رسالة التدريس، ولمن لا يعرفه ومن يعرفه أقول: إنه المثال الأسمى في التدريس والذي يجب ان يضرب به المثل، هذا الذي يثبت أن رسالة التدريس ليست وظيفة كسبية حالها كحال أغلب الوظائف، بل هي مهمة سماوية، لا ينتظر منها عائدًا ماديًا، هو في غنىً عنهُ أصلًا، ولكن من أجل أمور أخرى، فهو يجلُّ مهنته كما يقول، ويعتبر هذه المهنة حبيبته ويضحي من أجلها، وقد عدل عن الدراسة في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بعد أن قضى فيها سنتين، حين أتاح له القدر أن يدرس تخصص اللغة العربية ليكون مدرسًا لاحقًا، وهو ما كان حيث إنه الآن مدرس للثانوية وقد جعل من علاقته مع الطلاب علاقة متنوعة فهي علاقة الأستاذ بالطالب والأب بابنه والأخ بأخيه والمحب بحبيبه، حتى وصل الأمر إلى أن اعتبره أغلب الطلاب نموذجًا لهم، لدرجة أن بعضهم تخصص نفس تخصصه حبًا فيه، ولقد شهد بعض المشرفين بكفاءته ونموذجيته في التدريس حيث يعتز بهذه الشهادة، في حين أننا لا نعطي هؤلاء حقهم من التقدير والاعتزاز والاحتفاء، وليعذرني السيد الكريم أنني بحت بما طلب مني ألا أبوح به.

نعم أيها المعلم نحن مقصرون في حقك بل وأقل حقك علينا وأنت الذي أزحت عنا همومًا كثيرة حين تكفلت بها في حق أبنائنا، وقد شاطرتنا التربية، بل وتحملت الجزء الأكبر منها، وكيف لا وعلى يديك تخرج من تخرج، وعلى يديك ارتقى من ارتقى، وبفضلك يا رسول السماء بعد فضل الله استنارت البصائر، وميزت العقول بين الحسن والقبيح، والكفر والإيمان والحديث والقرآن، فلا يكفي أن نقف لك إجلالًا، فأنت تستحق أكثر من ذلك، يا من خدمت الإنسانية، وحق أن تنال الجزاء الأوفى من الله (عزّ وجلّ)، وهو خير جازٍ ومثيب ، وأنت أيها المعلم تستحق الدهر كله للاحتفال بك، وليس يومًا واحدًا.


error: المحتوي محمي