أدعية الإمام السجاد (ع) ومناجاته كانت ذات أهداف وأبعاد ومضامين عالية في البناء الروحي والفكري للمؤمنين، تفصح لهم عن معالم القرب من الله تعالى وعبوديته وفق آداب استشعار معيته وعظمته المانعة عن الانزلاق في وحل المعصية والرذيلة، وتصنع ذاك القلب الذي انقشعت عنه غشاوة الغفلة والتبلد، فعلته النباهة والوعي والبصيرة في عواقب الأمور.
وما كان يتسنى لأحد أن يعتلي مقام القدوة المعلمة والموجهة للناس نحو نور القيم وتكامل النفس، إلا ممن عرف الله تعالى – حق معرفته – وجسد في سيرته مقام الخشية من الله تعالى، وفاض على لسانه منطق الحكمة والمعارف الحقة والفهم الرشيد، والإمام السجاد (ع) سليل النبوة والإمامة كان قامة عالية في صناعة النفوس الإيمانية، وتبيان ما تتحلى به من الفضائل التي تهيئها لاكتساب النفحات الرحمانية وتحظى برعاية ربانية خاصة، بالتوفيق والتسديد لذاك العبد في مجريات حياته بما يجنبه السقوط في فتن الشيطان وتسويلات النفس.
وما بكاؤه (ع) في محراب الطاعة إلا تعبير عن حضور قلب عامر بمعرفة الله تعالى، فالطريق ملقى على جوانبه الأشواك التي يمكنها أن تؤذيه إن لم يلتفت إليها ويتجنبها، فقد أعد الشيطان في كل خطوة نخطوها وكلمة نتفوه بها فخاخًا يأمل باصطياد المرء عندها بانزلاقه إلى المعصية المزينة، أفلا يبكي من يعرف فداحة معصية الخالق العظيم، وما يجنيه من خيبة كبيرة وخسران مبين، فقد اقتطع من وقته ما يأنس فيه بالخطيئة، وكان الأولى به استثمارها في مضمار العبادة والتزلف لرب العالمين.
الصراط الدقيق في الدنيا ما هو إلا تعبير عما يواجهه المرء من عقبات اختبار تبلو حقيقة إيمانه، وليس من الهين على من ضعف إيمانه وتسربت إليه الغفلة وتطلعت عينه إلى شيء من زهرة الدنيا، أن يجتاز تلك المراحل المتتابعة في حياته والمتصفة بالمشقة، ولا يسعفه وينجده في تجاوزها والإفلات من فخاخ الشيطان إلا دمعة الوعي التي سكبها عند مناجاته.
وعالم البرزخ الذي ينتقل إليه الإنسان بعد أنس وسرور في الحياة الدنيا بقرب أحبائه يستمتع فيها بالملذات، وها هو يواجه عالمًا آخر يعاني فيه من الوحشة والظلمة والوحدة، يواجه حسابًا مصغرًا لا يظهر فيه النور والأنس إلا من خشي الرحمن وتعلق بالسادة الأطهار، فسلك نهجهم ويرجو حضور أرواحهم الطاهرة تخفف عنه وطأة القبور ويأمل شفاعتهم.
وهل هول المطلع وما يواجهه العبد من فزع يوم القيامة بالشيء الهين الذي يمكن تجاهله وتناسيه!
من اتبع النهج العبادي السجادي واستحضر تلك الأهوال، فانصرف قلبه عن عشق الدنيا والهيام بزخارفها، وامتطت نفسه العفة عن القبائح والمعايب، وامتلأت قناعة برزق الله تعالى وسلمت لتدبيره، وأنست بذكر الله تعالى وفضلته على كل شيء، فما الدنيا في نظر الإمام السجاد في قيمتها إلا ما انقطعنا فيه لذكره سبحانه وتمعنا في معاني كتابه المنزل.
هذا هو المعنى الحقيقي للزهد والتجافي عن دار الغرور، بلا إعراض أو انزواء عن إعمار الدنيا والحضور القوي للمؤمن، بما يحمله من مضامين قيمية لتشرق في جميع جوانب حياته وعلاقاته ومنطقه، فالعبادة الواعية ليست بانعزال ورهبانية، وإلا فكيف يؤدي المؤمن دوره الرسالي والتبليغي في المجتمع، دعوة للمعروف واكتساب الفضائل وردعًا عن المنكرات وتوقيها، فإمامنا زين العابدين (ع) لم ينفصل عن المجتمع وتوجيهه مع صعوبة الظروف التي كان يعاني منها، بل انطلق في فضاء التوجيه وميدان التعليم بقوة واقتدار.