جاء أكتوبر ١٩٧٣م وكنا صغاراً لا نملك تلفازاً في المنزل وكذا كان حال أغلب الناس. في الصفوف الإبتدائية كنا نستعير مقاعد الكبار ونملأ أعيننا بصور مشاهد حرب أكتوبر ١٩٧٣م. كنا نتلوى مثل الأعواد الغضة مع صوت كل انتصار ونموت مع عطش أو موت كل جندي عربي في شهر رمضان، نعد الأسرى ونعبر الجسور مع جيوش العرب.
ليس لنا مكان مع الكبار في مقهى البلد ولم يمنعنا من مزاحمتهم، من يملك قروشاً يشتري الشاى و يلعب الدومينو ومن لا يملك القروش يقف في الزاوية البعيدة وينظر. في صغر السن كانت العين ترى من بعيد الجسور التي تعبرها المشاة والأراضي التي تستعيدها لكنها الحرب وقفت كما بدأت، كانت على بعد أيام من هذا اليوم حرب أكتوبر ١٩٧٣م، انتظرنا أن تنتهي الحرب لصالحنا ولكن مر الزمن بطيئاً حتى أتى عام ١٩٧٤م ولم تجرِ الرياحُ بما تشتهي سفُنُنا.
سرعان ما جاء مسلسل فارس ونجود، احتفظنا بموطئ القدم ذاتها على المصطبة الثانية من الشرق، القصة التي سحرتنا بعد أن نسينا حرب أكتوبر حين عُرض مسلسل “فارس ونجود” عام ١٩٧٤م فيه سميرة توفيق والراحل محمود سعيد. كان صوتُ محمود الجهوري ولهجته البدوية وحبة خال سميرة تجذبنا كل مساء عند الثامنة تقريباً. يمكننا رؤية التلفاز بوضوح، ويملؤنا الشوقُ كل ليلةٍ لنرى ماذا فعل “الفارس ولد متعب” ومغامراته في وادي المنايا ليحقق مطالب “الشيخ طراد” في المهر وهو جلب نبتة “زهر العيون”، لعلاج عين أم نجود، حسب وصفة الطبيب حسين، قبل أن يفوز بقلب ابنته الساحرة “نجود بنت طراد” دون الباقين والتي دعت العجوز على فارس بأن يعشقها. ومشكلة هذه النبتة أنها موجودة في وادٍ لا يستطيع أحد الوصول إليه ويخرج منه حياً.
انتهت القصةٌ بظفر فارس بنجود بعد كل المصاعب حلَّ عام ١٩٧٥م وأتت حربُ لبنان الأهلية وكبرنا على المقهى ولم نعد نحتفى به ولا بالتلفاز الأبيض والأسود، لم يعد الصغار صغاراً كبروا وكبرت همومهم.
يوم كنا صغارا كان في داخلنا الهم والوجع العربي الذي فارق جميع الصغار اليوم ولم يعد يسكنهم كما سكن فينا. من يلومهم فقد أصبحت الحرب والسلم سيان في قاموس الإنسان اليوم.