المواطنة.. عطاء ونماء

كلمة الوطن كلمة لها فعل السحر في النفوس الصافية؛ لأنها تربط الإنسان بذكرياته مع أهله ورفاق طفولته وصباه ومع جيرانه وأقربائه وتعيده في كل مرة يسمعها أو يقرؤها إلى هذه الذكريات، ولعل من الغريب أن هذه الذكريات تظل محببة للنفس حتى وإن كانت طفولة الإنسان فيها شيء من الفقر والحرمان فحتى هؤلاء الذين عانوا في طفولتهم يحنون إلى تلك الأيام ويشتاقون إليها حتى وإن كانت أحوالهم أفضل منها في حاضرهم وأمورهم أيسر، كما أن حنين الإنسان لوطنه كذلك لا يعني بالضرورة أن هذا الوطن هو أجمل طبيعة ولا أكثر عمرانًا من المكان الذي يعيش فيه بعيدًا عن الوطن فكم وجدنا من الغرباء عن أوطانهم في أوطان أكثر تقدمًا وأجمل طبيعة وأيسر عيشًا يتمنون العودة إلى تلك الأوطان وهم يدركون أن حياتهم لن تكون أسهل وأن أمورهم المعيشية لن تكون أفضل ولطالما كانت وصية أكثرهم أن يدفنوا في تلك الأرض التي جاءوا منها إذا حان الأجل. هذه المحبة للأوطان كذلك ليست شعورًا مرتبطًا بالإنسان فقط، بل إن كثيرًا من الحيوانات والطيور والأسماك لاحظ العلماء والباحثون أنها تعود إلى المواطن التي جاءت منها في أعماق البحر حتى وإن ابتعدت عنها كثيرًا، بل إن البعض منها يموت إذا أخذ بعيدًا عن موطنه والبعض الآخر يموت فورًا إن نقل من بيئته التي خلق فيها. كل هذه المقدمة كانت ضرورية للحديث عن الانتماء الوطني وأهميته في حياة الإنسان وضرورة أن يكون ذلك الانتماء ذا مظاهر عملية تترجمها أعمال المواطن وتصرفاته والتزامه تجاه وطنه، وألا يقتصر ذلك على المشاعر الرومانسية والعبارات التي يرددها البعض بمناسبة وغير مناسبة، خاصةً هؤلاء الذين يحاولون بهذه العبارات التي تكون خطابات حينًا وشعرًا وأغنيات حينًا آخر أن يستروا فهمهم القاصر للمواطنة وهي الحقوق التي يعتقدون أن المواطنة تعطيها لهم ويتجاهلون الواجبات التي تترتب على هذه المواطنة وهي واجبات لا يحتاج صاحب الفطرة السليمة والعقل الراجح الواعي إلى من يذكّره بها أو يحثه عليها. لا يعني ما قدمنا أننا نطالب المواطن بألا يتحدث عن حقوقه ولكن نريد أن يكون ذلك حديثًا متوازنًا بحيث يكون الحديث عن الحقوق مقرونًا بوعي المواطن بواجباته أيضًا خاصةً في الأوقات التي تمر بالأوطان وتكون في أشد الحاجة لأبنائها.. صحيح أن المواطن في بلادنا قد أثبت في كثير من المواقف استعداده للعطاء للوطن والبذل في سبيله وما التضحيات التي يقدمها أبناء الوطن هذه الأيام على الحد الجنوبي إلا مثال على أقصى البذل وأسماه وفيه يصدق قول الشاعر:

يجود بالنفس إن ضنّ البخيل بها

والجود بالنفس أقصى غاية الجود

كما أن هناك الأمثلة العديدة التي تدل على استعداد المواطن للعطاء تتجلى في مواقف المسؤولين ورجال الأعمال في أكثر من مناسبة.. وإن كان المطلوب يظل مزيداً من العطاء خاصةً والوطن يعيش مرحلة تهدف إلى الانتقال إلى الأفضل في جميع المجالات من خلال برنامج التحول الوطني وتحقيق رؤية المملكة 2030، ما يستدعي حشد كافة الطاقات والإمكانيات المتوفرة لدى كافة المواطنين والمؤسسات للمشاركة في هذه الجهود ودعم جهود الدولة ومؤسساتها في تحقيق ما تتضمنه هذه الخطط على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والعلمية كافة. والمواطن المحب لوطنه يغار عليه تمامًا كما يغار العاشق على محبوبته فهو لا يطيق أن يلحق بها أذى، والمواطن الغيور على وطنه يبدأ بنفسه فيحرص أن يكون قوله وفعله يعطيان صورة إيجابية عن أبناء هذا الوطن في سائر تصرفاته في الداخل والخارج، لا سيما إذا كانت هناك قوى خارجية لا تريد الخير لهذا الوطن وتحاول أن تسيء إليه وإلى أبنائه، وتتصيد الأخطاء والهفوات لرسم صورة ذهنية سلبية لدى الآخرين عن الوطن، كما أن من حب الوطن أن يحب المواطن غيره من المواطنين باعتبارهم شركاء في الوطن، وألا تتغلب مشاعر الانتماء للجهة أو القبيلة أو المذهب، أو لنقل أن يكون الإنسان وفيًا لذلك كله، خاصةً وأن ليس من الضرورة أن تتعارض هذه المشاعر لأن الإنسان العاقل يستطيع أن يوفق بين ذلك كله، وأن يضع الأمور في مكانها الصحيح، ومن حب الوطن أيضًا المحافظة على الثروة الوطنية والمرافق العامة وأداء المسؤولية في المواقع التي يتحملها فيها سواء كان ذلك في وظيفته إن كان موظفًا أو عمله في القطاع الخاص أو مشروعه الشخصي أو غير ذلك، بحيث ينعكس هذا الأداء وإتقانه على الإنسان في سائر المجالات. إن الإنسان الذي يحب وطنه ويخلص له الحب لن يعدم الوسيلة العملية للتعبير عن ولائه وانتمائه للوطن ومفتاح ذلك كله صدق الولاء والطاعة لولاة الأمر الذين يعملون ليل نهار من أجل حاضره ومستقبله.أقوال: قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: «لولا حب الوطن لخرب بلد السوء»، وكان يقال: بحب الأوطان عمرت البلدان.

وقال جالينوس (طبيب اليونان): يتروح العليل بنسيم أرضه كما تتروح الأرض الجدباء ببلل المطر.

وقال أبقراط: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه كأن الطبيعة تنزع إلى غذائها.

وقال أعرابي وقد مرض بالحضر، فقيل له: ما تشتهي؟، فقال: مخيضًا روبًا وضبًا مشويًا.

وأخيراً صدق القائل: إن لم تكن تحمل هم الوطن فأنت هم على هذا الوطن.

اليوم


error: المحتوي محمي