واجهة زرقاء لمحلٍ يقع في أطراف أحد شوارع حي الديرة بسيهات، كتب في أعلى الواجهة “السيد” بخط تداخلت فيه اللغتان الإنجليزية والعربية معًا، ذلك الوصف البسيط لا يمكن أن يضيع من مخيلة أيٍ من أبناء تلك المدينة سيما جيل الثمانينيات، رغم أنه لايزال ماثلًا مكانه كمقصدٍ للباحثين عن العديد من الكماليات المنزلية؛ إلا أنه كان مقصدًا مختلفًا لذلك الجيل، فـ”السيد” أو ما يعرف عند الكثير من الأهالي بـ”علوي” كان وجهة الأسر لشراء الملابس والعطور وأدوات الزينة وغيرها، منذ افتتاحه ودخول التطورات عليه شيئًا فشيء.. ولكن، ماذا لو عرفت أن وراء استقامة التجارة في ذلك المعرض ورواجها طفلًا لم يتجاوز عمره الثانية عشرة!
شكل السيد كاظم السيد علوي بتجربته الممتدة نحو ستة وأربعين عامًا، أيقونة للكفاح في الحياة، والعمل التجاري، حيث بدأ برفقة والده السيد علوي (رحمة الله عليه) رحلة تجارية استهلها بعمر الثانية عشر ربيعًا، منذُ أن كان يدرس بالصف السادس الابتدائي، اكتسب من خلالها الخبرة، وتشعبت علاقاته العامة.
وتعامل “علوي” في سن مبكرة جدًا مع الموردين، سافر إلى مدينة جدة ليعقد الصفقات التجارية، وتردد عليها لوحده مرات ومرات وهو في المرحلة المتوسطة بدون مرافق، وتكررت سفراته إلى دولة الكويت، لؤلؤة التجارة في الخليج، حينها التقى بالمندوبين والمسوقين الدوليين في مدينة دبي، واستورد أجود السلع من أوروبا وأمريكا، فأصبح محله قبلة للمتسوقين في بلدته سيهات.
كان الزبائن يتزاحمون بعد إفطار رمضان عند باب المعرض قبل أن يفتح أبوابه لشراء ملابس العيد، حوَّل محله الصغير إلى معرض تجاري كبير بشيء من التحدي، أبدع في إدارة المعرض، فكان أول من أدخل التقنيات الحديثة، وكان معها قصة.
هنا، سرد السيد كاظم بداياته الأولى، ومغامراته الكثيرة، وتفاصيل يومياته، ومراحل التوسع والانتقال، ومواسم الوفرة والضيق. «القطيف اليوم» تسرد قصته، قصة تاجر ابتدأ صغيرًا بكفاح كبير.
كان يافعًا في السن، يدرس حينها في الصف السادس الابتدائي من عام 1972 ميلادية عندما فتح المحل التجاري أبوابه لاستقبال أول الزبائن في بلدته الوديعة سيهات. كيف فتح المحل؟ ومن أين استورد البضاعة؟
البدايات
ذهب برفقة والده المرحوم السيد علوي إلى مدينة الرياض مع أحد أقاربهم، وهو عبد الهادي الشافعي، لخبرته التجارية، وأخذهم في حينها إلى أسواق البطحاء إلى محلات الجملة التي يعرفها، فابتاعوا بضاعة بقيمة سبعة آلاف ريال، كانت كفيلة بتعبئة الدكان الناشئ، الذي كانت مساحته تبلغ حينها عشرين مترًا مربعًا.
قريبهم “الشافعي” كان يمتلك محلًا تجاريًا ليس بعيدًا عن محلات “البرباري والسبع” في سوق سيهات، وكذلك كان يمتلك مركزًا تجاريًا مشهورًا باسم “الأناقة” في سوق الحب بالدمام قبل السبعينات الميلادية، فكان خير مرشد لهم في توفير البضاعة.
كان المحل الأول عبارة عن نصف محل، والنصف الثاني استُخدم كمستودع، اكتظت السلع فيه بملابس الأطفال والنساء وشيء من الملابس الداخلية، عندها شُرعت أبوابه لاستقبال الزبائن ومشى بصورة جيدة، فيما بعد أضيفت سلعة أخرى وهي العطور التي كانت في وقتها رخيصة لا يتجاوز ثمنها الخمسة والعشرين ريالًا لماركات مشهورة مثل؛ بروت، وبروفسي، وأبو طير، وبترا، وكان السيد كاظم يشتريها من سوق الدمام مقابل المسجد الكبير.
الإضافات
اقتصر المحل على الملابس والعطور، وتعددت أماكن الاستيراد، وكانت هذه المرة من دولة الكويت، حيث كانت البضاعة تُجلب بين كل أسبوعين وثلاثة أسابيع، إلى أن انتقلوا إلى مدينة جدة، كمصدر رئيسي للاستيراد.
في عام 1980 ميلادية، انتقل المحل إلى المبنى الحالي وتحول من محل صغير إلى معرض كبير، وتم إدخال سلع جديدة مثل البطانيات، والشراشف، والمفارش، والفوط، وكانت تعد حينها سلعًا جديدة أضيفت للمعرض، وفي نفس العام كان هنالك مندوب من الجنسية المصرية جاء من مؤسسة “الزهراني”، ونزل إلى الأسواق يبحث عن محلات يصرف فيها بضاعته، فعرض بعضًا من الأواني المنزلية، واقترح تجربة بيعها بالمعرض.
وبالفعل صُفت بضاعة في الرفوف بقيمة سبعمائة ريال من ملاعق وغواري سلستيل، فدخلت الأواني عن طريق المندوب المصري، وبعدها تعدد مندوبو الشركات ليتحول المعرض في الطابق الأرضي إلى أوانٍ منزلية وأجهزة كهربائية، والدور الآخر ملابس.
الاستيراد
في الثمانينات بدأ السيد كاظم يستورد الملابس من بريطانيا وإسبانيا، كان يتردد على مدينة دبي، يحضر المعارض الموسمية، ويقابل المندوبين، ويعقد معهم الصفقات، فكان من خلالهم يستورد الملابس الداخلية من إسبانيا، وأرواب النوم من أمريكا، فيما بعد بدأ المندوبون يزورون السعودية ويلتقي بهم لغرض الاستيراد.
كان المعرض يطلب البضاعة للمواسم مثل موسم شهر رمضان، فيقدم الطلبية قبل ستة أشهر ليضمن وصولها في الوقت المناسب.
وكان يتردد على أسواق دبي ليتعرف على الجديد، ولارتباط والدهُ بالوظيفة كان السفر يقتصر عليه وحده.
وقال السيد كاظم إن فكرة المحل في البدايات جاءت بتأثير من أصدقاء والدهُ، مثل المرحوم عبد الرضا الدب، من القطيف، الذي يمتلك محلًا لأدوات الخياطة، وعلي سكيري، صاحب محل “سكيري” في حي الديرة، وكانت غايته حينها حفظ أولاده من رفقاء الشوارع في محل يجلسون فيه.
وأضاف أنه كان وقتها صغير السن في الابتدائية وإخوته صغار، إذ فتح المحل سنة 1972، بينما وُلد أصغر إخوته عام 1977 ميلادية.
وأوضح أنه في عام 1985 ميلادية هُدم المحل وبني مكانه معرض من دورين، وأُدخل قسم للأحذية، والألعاب، وأدوات الخياطة، فكان أول محل في البلدة يبيع أدوات الخياطة بشكل موسع بعد محل عبد الرضا، وكان الخياطون يعتمدون عليه في توفير مستلزماتهم، إلى أن نشط الموزعون فألغي قسم الخياطة، وكان في وقتها هم أول من أدخل الخياطين التايلنديين عام 1982 ميلادية بفتح محل للخياطة، فكان معظم الخياطين من الهنود.
صعوبات
ومع استمرارية العمل التجاري تراكمت ديون كثيرة معدومة، وشبه معدومة، فبعض المستدينين معروفون، وبعضهم غير معروف جاء عن طريق آخرين، فكانوا يشترون بالأجل، وكان يتساهل مع الجميع، مما جعل المركز المالي للمعرض يتضعضع في فترة أواخر التسعينات قبل التوسع وفتح الفرع الثاني الكبير، فكان المحل شبه خالٍ من السلع، وحركة الزبائن متوقفة، وقلت السيولة، ولم يكن بمقدور المعرض توفير سلع جديدة، لأن معظم أموالهم عبارة عن مديونيات، والناس لا تدفع ما عليها.
الريادة
أدخل السيد كاظم نظام الباركود عام 1989 ميلادية، فكان من أوائل من أدخل هذا النظام بالمنطقة، ولم يفعّله حينها لاحتياجهم للتدريب عليه، فسبقتهم به المخازن الكبرى بالدمام، كما أدخل نظامًا حاسوبيًا كاملًا للمبيعات، كشبكة كاملة للدورين العلوي والسفلي في المعرض، وقد تكلف نحو خمسين ألف ريال، وكان البرنامج حينها يعمل بنظام “دوز”.
ومع حلول الألفية، ودخول عام ٢٠٠٠، صفرت جميع الأجهزة، مما جلب الخسارة للنظام بشكل كامل، فاضطر إلى تحويله إلى نظام “ويندوز”، وكانوا هم أول من أدخل تغليف الهدايا باسم خاص بالمعرض.
تحديات
واجهت المعرض تحديات متعددة، منها قربهُ من مدينة الدمام بفارق شارع، مما حدا بالزبائن إلى الانتقال من الخيار الواحد في المعرض إلى آلاف الخيارات عبر آلاف المحلات المتواجدة في الدمام.
وأدى فتح محلات متخصصة إلى جعل المنافسة كبيرة، بينما المعرض غير متخصص، فإذا لم تمش سلعة معينة قد يباع غيرها، فيعوضه المحل بالتنوع، كما أن إلغاء بعض الأقسام بالمحل أثر على المبيعات، بالإضافة إلى دخول الملابس الصينية المنتشرة بمئات الموديلات، الأمر الذي حدّ من القدرة على المنافسة، فلا يستطيع المعرض استيراد ملابس أوروبية خلال السنة أكثر من مرتين أو ثلاث، لذلك الزبون يرى نفس الصنف بلا تجديد!
بين التفاصيل اليومية
تخرج السيد كاظم عام 1980 ميلادية في الثانوية التجارية، وكانت وقتها في حي الطبيشي بمدينة الدمام، ولعدم وجود سيارة، كان يذهب في الصباح برفقة طلاب من بلدة “عنك” المارين في طريقه، بينما يتدبر أمره في طريق الرجعة مع أحدهم من بلدته.
ويقول السيد كاظم إن إخوته التحقوا بالمحل وهم طلبة بالمدارس، بينما تفرغوا للعمل فيه بعد تخرجهم في الثانوية، وقتها لم ترصد لهم رواتب نظامية إنما من يحتاج منهم لمبلغ مالي كان يأخذه من المحل.
وأضاف أن والدهُ كان يوصيه بتوفير السلع والبضاعة ذات الجودة العالية، حتى عندما يرافقهُ في أسواق الجملة كان يحرص على جودة المنتج، وأشار إلى أنه سابقًا كانت السلع محترمة، فلا يوجد إلا صنف واحد أو تقليد، أما حاليًا فهناك الجيد وعشرات المنتجات المقلدة.
ونوه بأن والدهُ امتلك سيارة “سوبربان” عام 1977 ميلادية، فكان يشتري بضاعته من الدمام أو يطلبها من جدة، فتأتي عن طريق المخرّجين بالراكة في مدينة الخبر، أو مستودعات الخالدية، وعند رجوع والدهُ من دوامه بالظهران يمر على البضاعة وينقلها إلى المحل.
ويذكر تعب تلك السنوات منذ عام 72 إلى 84 ميلادية، قبل توفر السيارة، من حمل الأكياس وصناديق الكراتين ونقلها ابتداءً إلى ستيشن (محطة) التكاسي في الدمام، وعند وصولها يحملها من التاكسي إلى المحل، وأوضح أنه بدأ بسياقة السيارة عام 1984 ميلادية ليرتاح من ذلك العبء.
وبيّن طريقة رحلاته إلى مدينة جدة بداية برفقة ابن عمته عبد الغني الشافعي لمرتين، ومن ثم تردد على جدة لوحده بما يعادل كل شهر مرة، وهو لايزال في المرحلة المتوسطة، وأضاف إلى المعرض قسم القرطاسية التي كان يستوردها من مكتبة المعرفة ومكتبة “ميرزا” بجدة، فوقتها كانت لا توجد إلا قرطاسيتان في سيهات، قرطاسية “الخرداوي” وقرطاسية “النصر”.
ولفت إلى أنه في السنوات الأخيرة بدأ الموزعون والمندوبون يزورون المحلات، إضافة إلى فتح محلات ومكاتب الجملة في الدمام، مما قلل من سفراته.
بين الماضي والحاضر
ومع التغيرات الحالية، أصبح الجيل الحالي لا يقبل على المعرض، وذلك لافتقاده حاليًا سلعًا تخص الجيل الجديد كما كانت سابقًا من قرطاسية وكريمات، وأدوات تجميل من مكياج، وبكل شعر، وشنط، وخلافها، بسبب إلغاء بعض الأقسام، “فالتأثيرات من حولك اختلفت، والوضع العام لا يرجع كما السابق مهما وضعت أو أضفت إضافة جديدة، ففي السابق كان المعرض شبه وحيد في السوق، وحتى قرب الدمام في وقتها لم يكن يعني شيئًا، ففي السبعينات والثمانينات لم يكن كل الناس يمتلكون السيارة، أما حاليًا فالمسافة بين المركز والدمام بفرق شارع”.
ويذكر السيد كاظم أنه في الثمانينات بعد فطور رمضان بقليل، كانت النساء يصطففن أمام المعرض حتى قبل أن تُفتح أبوابه، فجودة الملابس ونوعيتها كانت تجعل الناس لا يفكرون في الذهاب إلى محل آخر، بالإضافة إلى وجود فرق في الأسعار بينه وبين محلات الدمام.
الوظيفة
كانت الوظيفة جاهزة في شركة “أرامكو”، وكان رئيس والدهُ قد أخبره بأن يشتغل لأشهر معدودة في الشركة، ومن ثم يبعثه لإتمام الدراسة في أمريكا، لكن في تلك الفترة كانت التجارة في المعرض منتعشة وفي أيام عزّها، لذلك رفض العرض.
لكن السيد كاظم تمنى لو عادت به الخيارات في وقتها، لكان قد توسع في شراء أرض أو بيت وخلافه، لكنه عزا ذلك إلى الاستغراق في العمل التجاري والانشغال فيه، فكانت الطموحات محدودة والتفكير محدود، وأكد أنه لو رجعت به الأيام لكان يتمتع حاليًا براتب تقاعدي فيما لو وافق على الوظيفة.