بعد كُلِّ التحامٍ بين البشر يُحصي المتحاربونَ خسائرهم وأرباحهم، منهم من يُضمر ويعمل على الاستعدادِ للمعركةِ التالية ومنهم من ينتشي في النصر الذي أحرزه.
نحنُ لم نشهد القتالَ في يومِ العاشرِ من المحرم سنةَ ٦١ هجرية، لكننا ملحقونَ بأحدِ المعسكرينِ المتقاتلين، وبالتالي أقمنا ذكرى المعركة، وبكُلِّ فخرٍ نحن نحسب أنفسنا من أصحابِ الحسين (ع)، السيد الكبير الذي عثرَ به الموتُ وهو يزرعُ شجرةَ الكرامةِ في بطنِ وادٍ بالعراقِ بعد أن كانَ يرتقي كتفي جدهِ (ص) إمامَ الكرامةِ المحض صغيرًا في الحجاز.
نحن الذين وددنا لو أنَّ الزمنَ عادَ ألف سنة وأكثر للوراءِ وشرعنا سيوفنا دونه، فهل ما قلنا وتمنينا كانَ حقًا أم أمنياتٌ لا تصمد في الواقعِ وتجرفها السيولُ حتى تعودَ وتتجمعَ في السنةِ القادمة؟
كانَ في الذكرى كل شيء، بكينا وتلقينا المعلومةَ وأكلنا وشربنا والتقينا حتى مساءَ اليوم العاشر. ترى كم تدومَ شعلةُ الحماسةِ في أعيننا والفائدةُ إن حصلت أم هي كما يقولُ الشاعر:
وكُلٌّ يدعي وصلًا بليلى
وليلى لا تقر لهم بذاكا
إذا انبجست دموعٌ من عيونٍ
تبينَ من بكى ممن تباكَا
لا شكَّ أنَّ هناكَ من خرج بحاصلٍ يغبطه عليه الغير وكان مثالًا لمن {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}، والبعض استظلَّ في ظلِّ الشجرةِ وإن كان لم يقطف من ثمرها الكثير.
دونَ إحصائياتٍ دقيقة لا يرغب الكاتبُ الهزيل أن يجزمَ بالقولِ إنه في اليومِ الحادي عشر يعود الكثيرُ من المجتمعِ لسكونهِ واستقراره في عاداتهِ وممارساتهِ السلبية والإيجابية على السواء ويصدق عندها التعجب:
كأن لم يكن بين الحجونِ إلى الصفا
أنيسٌ ولم يسمر بمكةَ سامرُ
تتضمن أرباحُ المجتمعِ من كُلِّ ثورةٍ اتباع نهجها الحضاري والسلمي والقيمي، ومنها الصدق والعدالة والإباء والكرم، وهي في مجملها تَظهر وتتجلى في ممارساتِ من يفخر بها مع الآخر في مجتمعهِ ومع ذاكَ الإنسان الذي ليس بينهُ وبينه سوى دم الإنسانيةِ البعيد.
الملايينُ ينهلونَ من منابعِ الثوراتِ ولا يمكن الحط من استفادتهم من تلكَ الوقفاتِ، ولكن لك أن تتفحصَ المعضلاتِ الاجتماعية والأخلاقية التي تمر ذاتَ الفترةِ كل سنة، هل هي تنحسر أم تتجذر؟ وهل لو خرجتَ للسوقِ غدًا وكانت عندكَ صورة دقيقة لما قبلَ المناسبة وصورة الآن، هل تستطيع أن تقولَ حصل ما كان يُراد من التجمع؟
كل محطاتِ الحياةِ ومناسباتها في أَقلِّ فائدةٍ تشبه محطةَ الوقود الإنسانية التي يقف عندها السائرون للتزودِ حتى المحطة القادمة، ولكن المرجو أن تكونَ نبعًا ذاتيًا يُنتج وقودَ الكرامةِ والأخلاق والأمانة والصدق دونَ توقفٍ متكرر.
أنا وأنتَ يجب أن نفحصَ جيوبنا ونزنَ الحاصل، فإن كان الناتجُ إيجابيًا وأكثر من القيمةِ الدنيا، علينا أن نهنئَ أنفسنا، وإذا لم يكن هناكَ شيء نفخر به فالربُّ لا يعدمنا المحطةَ التاليةَ في الحياةِ التي يذكرنا فيها بأنَّ القيمَ قد لا تأتي بالوراثةِ بل بالتعلمِ والممارسةِ التي تجعلها جزءًا من ذاتنا.
كُلُّ الجوامعِ والمآذن والشهداء تدعونا ألاَّ نركلَ القيمَ بل نضعَ في سراجها زيتًا كي تضيءَ لنا العتمةَ، هلاَّ فعلنا!