بعد أن لفت الملائكةُ روحَ الحسينِ (ع) وطافتْ بها إلى الجنةِ ونامَ جسدهُ في باريةٍ في قبرٍ في الوادي، يذكر التاريخُ أن ابنهُ الإمامَ علي بن الحسين (ع) كتبَ على قبرهِ وكانَ شاباً به علةٌ في الجسدِ لكنَّ عزمهُ وروحهُ في أوجِ الألقِ العبارةَ التالية: “هذا قبر الحسينِ بن علي بن أبي طالب (ع)، الذي قتلوهُ عطشاناً غريباً”. يبدو أنه خطها على القبرِ في الرمال ولكن هل فعلا ً خطها في الرمال؟ لو كتبها في الرمالِ لعفاهَا الزمنُ وتناثرت لكنها لا تزال مكتوبةً. لقد ضمنها بعد تعريفِ البشريةِ بالمغدورِ صوراً محفورةً حَفراً تكفي لتكونَ وثيقةَ محكمةٍ تدينهم، قتلوهُ ثُمَّ عطشاناً ثُمَّ غريباً. كلماتٌ تشبهُ وصيةَ ابنه الباقر إذ أوصى بثمانمائةِ درهمٍ لنوادبَ يندبنه في أيامِ منى مدة عشر سنواتٍ بعدَ وفاته.
العباراتُ التي تحمل صوراً لا يمكن للتاريخِ أن ينساها. كيف ينسى الزمنُ زعقاتِ الرجالِ و صهيلَ الخيل وقعقعةَ السلاح وفورانَ الدم؟ قتلوهُ وفيها “هاء” الضميرِ التي تعني “هم” وكأنه يقول أنا المتكلم أعرفهم والتاريخُ يعرفهم وأنتَ إن رأيتَ الخطَّ في الرمالِ ولو بعد مدةٍ سوفَ تعرفهم. لابد أن يسألَ من يقرأ الخطَّ كيف قتلوه؟ هل احتربَ الرجالُ وفازت فرقةٌ وخسرت أخرى أم لم يدخر العدوُّ في جعبتهِ سهماً من الخسةِ إلا رماه! قتلَ الأطفالَ وسبى النساءَ حتى الحسين قطعَ رأسهُ من القفا. إن قرأتها تسأل عطشان؟ ولمَ وهو جنب النهرِ الأبيضِ ينعكس منه الضوء ولم يكن من عادةِ الشرفاءِ أن يكونَ الماء جزءً من السلاحِ في الحربِ وهو كان معه عائلتهُ وأطفالهُ فلمَ منعوهُ الماء؟
لم ينسَ أن يقول غريباً فكيف يكون غريباً، ألم يكن له عشيرةٌ وأنصارٌ وامَّةٌ تدافع عنه ولم هجرَ مسقطَ رأسه؟ كُلُّ الأمةِ تعرف الحسينَ، رأوهُ حين كان ذاكَ الصغير الذي يصعد كتفي النبي (ص) في الصلاةِ أمامهم والنبي يدعه ولا ينزله حتى ينزل الصبيُّ من نفسه! ماذا كان مشروع هذا الغريبِ الحجازي الذي انتهى قتيلاً في وادٍ في العراقِ دونَ ماءٍ تحتَ الشمس؟
ثلاثُ كلماتٍ حملت من الشكوى والألم الكثير. يكفي أن قالَ قتلوهُ وفيها من الأنينِ والشكوى والدموع ما تُحرق نارهُ نخيلَ الوادي. وكذلك ابنهُ الباقر رفعَ عريضةً لمحكمةِ التاريخِ والإنسانية في وقتِ الحجِّ لسنواتٍ في منى حيث يقيم الحجاجُ من بقاعِ العالمِ مدةً طويلةً يرونَ نوادبَ يبكون! لا بد أن يسألَ الناطرُ لمَ البكاء، وعلى من، ولماذا؟ عرائضَ سلمية لا يزال التاريخ ينظر فيها فكأنَّ المحاكمةَ أبدية والجناة فروا من وجهِ العدالةِ ولو أن العدالةَ اقتصت منهم لم تحدث جناياتٌ بعدها ولخافَ الجاني من القصاص.
مرَّ زمنٌ ولم يزل الخيال يسأل، ألم تهتز الأرضُ وتموت الأشجارُ وتمطر السماءُ حولَ القبورِ جزعاً عندما خطَّ السيدُ كلماته القليلة؟ أم استفاقت ورقصت مثل أشجارِ الربيع فرحاً برفاتِ الزائرِ القادمِ من أرض الحجاز! أو لعلها تطربُ تارةً وتتأوه تارةً أخرى؟