الرسائل التي تصف الشوق المحترق والوله المضرم وتستجلب لطف محبوبها ليست حِكرًا لتُكتب ما بين بني البشر من العشاق فقط، بل تمتد لتكتب للأوطان بما فيها من أماكن أو أزمان، وقد تشمل حتى الجمادات التي تمس أرواحنا بنفثة حياة مثل الحياة التي نعيش تفاصيلها مع حروف الكتب.
فماذا عساني أكتب لهلال الزمان ليقرأ شوقي لتنافس المتنافسين فيه لإعلان ظهوره بلون الوجع الذي يستميت ولَه الجميع بمنظره رغم كل الأذى الذي يحمله معه، ومع أنه لم يتبق عليه إلا القليل من الأيام، لكن أنفاس الأيام الأخيرة من السنة ثقيلة جدًا فلا أحد يستطيع تخمين هل هو ممن يتشرف بنظرة من ذاك الهلال لتدب فيه تلك الحرارة الثائرة التي تشتعل وتتجدد بظهوره أم لا؟
وإن جئت لشوق الأماكن وردائها الأسود الذي بنظري هو أجمل رداء تزدان به لشهيدها الذي يشهد جمال استقبالها لعزاء أمه عليه، ليضاهي جمال رداء عروس بليلة عرسها تستقبل عريسها فيه.
وأما الرائحة فدع أنفاسي تلتقطها من طرف الذاكرة لتخرج بصورة أشواق طفل صغير ينتظر دوره ليساعد أمه في تحريك البصل في ذاك القِدر الكبير المخصص لعمل “المحموص”، ليكسو لون الأرز لون حِداده ويُوزع لاحقًا على الجيران أو على المستمعين بالمآتم، ولا أنسى رائحة القهوة المتسربلة بسوادها ليتذوق الجميع مرارة احتراقها بأحزان السبط الشهيد.
ولا أعلم بعالم الروائح العطرية كيف تغيب رائحة التراب حين تتطيب الجباه الساجدة عليه بالصباح أو المساء وهي ترتل: “اللهُمَّ لَكَ الحَمدُ حَمدَ الشَّاكِرِينَ لَكَ عَلى مُصابِهِم، الحَمدُ للهِ عَلى عَظِيمِ رَزِيَّتِي، اللهُمَّ ارزُقني شَفاعَةَ الحُسَينِ يَومَ الوُرُودِ وَثَبِّت لي قَدَمَ صِدقٍ عِندَكَ مَعَ الحُسَينِ وَأصحابِ الحُسَينِ الَّذِينَ بَذَلُوا مُهَجَهُم دُونَ الحُسَينِ (عليه السلام)”، وتفوح الرائحة الكربلائية حين تسقيها ينابيع المآقي النازفة بشوق الزيارة التي ترجو أن تكون قريبة لتمس شباك محبوبها دون حُجب.
وبوح الشوق لا ينتهي على ذلك فقط بل يشتاق لكل عين باتت ساهرة لتقدم أفضل وأجود وجبة للمحفل العالمي بحزنه، وقد تكون وجبة تقدم للجسد أو وجبة ترشد العقل لتمد الأنفس بزاد تمتد بركته لطول السنة ولسان الذكر يردد “يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين” حتى لو لم يدركوا فائدة ذلك الزاد، إلا أنه حتمًا تنال صحيحهم وسقيمهم بركته.
تذكرت شيئًا مهمًا يستحيل أن لا أذكره ضمن قائمة موجة الشوق العارم الذي يجتاح قلمي هذه الأيام، ألا وهي الأصوات، لا أقصد فقط الأصوات الشجية في أدائها الملهم للأرواح، لا بل أقصد كل صوت أختنق ببحة صرخته وتوقف لتسكن فورة غبنته، والتي جاءت مفجوعة من مصاب يتكرر منذ أكثر من 1400 عام، ولايزال يسمعه ويرويه للعالم وينفجع معهم مهما حاول إمساك نفسه بكثرة التدريب إلا أنها تظهر رغمًا عنه كشمس لا تمنع ضياءها الغيوم، لتحاكي صوت العقيلة المبحوح بصوت أخيها المذبوح.
وكذا الأصوات المسجلة التي ترتفع من فوق المنازل والمآتم لها طعم أعجز عن وصف نكهته اللذيذة على قلبي في شهر تشترك الأرض والسماء بنداء النعي والعزاء الحسيني.
وأكاد أنسى الشوق لصور الجمال البريء الذي يتمثل بشريطة مخطوط عليها جُمل الولاء الحسيني الذي يلبسها الرضعان والصغار ليؤدوا مراسيم المواساة لأطفال الطف وهم يرتدون ملابس السواد لتنمو جلودهم متبركة ببركة الموروث من التربية الحسينية، وعن جمال عباءة الفتيات الصغيرات وهن يرتدين الزينبية منها؛ لا تسلني من يتفوق بالجمال هنّ أم ملكات جمال العالم؟ لأن روحي ستظل منجذبة لصور العفاف الجميل المرسوم على لوحة الصغر.
وعن صور الأعلام المنشورة لا تستنطق عيني كيف ترى جمال تعليقها في البيوت والمآتم والمساجد لأنها ستفصح لك أنها بصمة الجمال على المباني التي لن تخضع بالحُكم لجودة الهندسة المعمارية أو التصميم الحضاري المتميز بل يفوز فيها بالجمال من تنافس بتعليق شعارات قلبه الحسينية ببيته.
وبعد كل هذا الكم من الرسائل المشتاقة للأشياء تبقى همستي الأخيرة التي أوجهها أخيرًا لبني البشر ولكل من اشتاق للحياة بزمن كثر به الموتى، إقامة شعيرة الإحياء الحسيني حياة تترجم كل معاني الشوق لحياة الجنان، ولا يقف ضِيق المكان أو قلة ما باليد عائقًا لذلك أبدًا، فقط أنوي وأنظر كيف لنظرة الحسين أن تحنو عليك بعدها باللطف الذي سيستمر معك ما دامت نيتك مستمرة معه.
فيكفي أن تملك كتابًا تحاول فيه محاكاة ما يُقرأ في المصيبة وغرفة لتعقد بها مأتمك الخاص بالمنزل أو بمكان العمل أو الدراسة والذي تزيد به منسوب الحياة في الأرض، ويكون بعين السماء كبير ليس كما يُنظر له بالأرض بكونه صغيرًا، وذلك حين تستقبل فيه المعزين حتى لو كانوا فقط عائلتك وأطفالك أو زملاءك وصحبك أو حتى لو كنت بمفردك، لتحضر معك وتبارك عزاءك أميرة الجنان وأم المصاب فاطمة (ع) فهل أنت عازم؟