ما قال الناسُ في ثورةٍ مثلَ ما قالوا في تلك التي قامَ بها الحسين (ع). ليس غريباً أن أطنبَ في الحديثِ عنها من أحبَّ ومن أبغض إذ كانت الشجرةَ التي مدت ظلها الوارفَ ليستظل به كُلُّ الناس وكانت الخبزَ الذي يأكلُ منه كُلُّ الناس والماءَ الذي ينهلُ منه كُلُّ الناس زمنَ الجدب. من الجنونِ ألا نظن أن تحتَ الشجرة ينمو نباتٌ فيهِ الحشائش التي تكبر على غذاءِ الشجرة وفيه الأزهار التي تنفع الشجرةَ وتنتفعَ بها. الأزهار غذت الخيالَ والفنَّ والشعرَ وقذفت به فوقَ القِمَمِ أما الحشائشَ والأعشاب فلن تضر تلكَ الشجرة وإن تنوعت ويجتثهَا العقلُ متى ما أراد.
لم يترك التاريخ الكثيرَ من التفاصيلِ إلا وذكرها وجادلَ فيها وكيف لا يجادل التاريخ جنونَ العقل. رجلٌ جاءَ وهو على يقينٍ أن السيفَ سوف يقطع رأسهُ في اليومِ التالي. كان يعرف ذلك ورفع صوته في البشريةِ التي خذلتهُ حين أراد أن يدلهم طريقَ الحريةِ والكمال أن تعالوا معي ولم يستجب له سوى ثلةٌ من العقلاءِ حتى الجنون. كانوا مجانينَ في حبِّ البقاءِ والشهادةِ والخلود وعقلاءَ كيف عرفوا الطريقَ لما أرادوا!
إن كان التاريخ يحمل الكثيرَ من الجدلِ فهل نستطيع أن نضيفَ له ماذا لو كانت الغلبة للحسينِ (ع) كيف ستكون الصورة في اليوم الذي يلي المعركة؟ ألم ينتصر جَدُّهُ في بدرٍ من قبل؟ أكان الشياطين يتركونه يحقق أحلامَ الأمةِ المؤمنةِ أم يسيرونَ في المدينةِ صارخينَ كَلاَّ، لا تتبعوه؟ لقد سبقهُ أبوهُ علي (ع) ولم يَدَعُوهُ يتغلب عليهم وأهبطوهُ الأوديةَ السحيقةَ في اليأسِ منهم! ماذا لو كان الزمان الآنَ وجاء الحسين، هل يجد معه سيوفاً تكفي أن ينتصر؟ أسئلةٌ لا يعرف المستقبل أو الحاضر الاجابةَ ولكن المتيقن أن كُلَّ الأنبياء لم يُترك لهم المجال لينقلوا الناسَ من جنبةِ النهرِ الجرداء إلى الأخرى الخضراء اليانعة وبقي شياطينُ الجنِّ والإنسِ يزرعونَ الأشواكَ الغضةَ في طريقهم ولو جاءَ الحسينُ اليومَ ربما لن يجد سوى ثلة من الخلص وكومةً من النبل وأفراساً ورماحاً قليلةً لا تكفي لتغييرِ ميزانِ القوى المادية.
حدثٌ مثل هذا لا بد أن يقولَ عنه التاريخُ والحاضر والمستقبل الكثيرَ ويفرغه من محتواه من أبغضَ ومن ادعى الحبَّ. رقدَ الحسينُ بسلامٍ وتسهر ثورتهُ تحرسُ الفضيلةَ والشرفَ وماتَ من طلب الدراهمَ والدنانير. هوى الحسينُ قمراً في الوادي بينَ قومٍ عادوا في لحظةٍ من التاريخِ خِلْوٌ من القيمِ التي جاءَ بها جَدُّهُ محمدٌ وصاروا أعداءً له.
غابةٌ من الشجرِ تظللكَ أيها السيد الكبير كما أظلتْ شجرةُ اليقطينِ النبيَّ يونس (ع) حين قذفَهُ الحوتُ في العراءِ حَيَّاً وأنت قذفكَ البغاةُ في الصحراءِ قُربَ نهرِ الفراتِ شهيداً. وهبكَ اللهُ من الرفعةِ والجمالِ والخلود ما لم يعطيهِ غيرك ويتجدد العزاءُ فيك لمحمدٍ وعليٍّ وفاطمةَ والحسن وكلَّ من رآك قيمةً إنسانية. لو كانوا أحياءَ لانتحواْ ناحيةً وبكوا عليكَ دماً أيها السيد الكبير يسمعهم الناسُ: يا دارَ الحسينِ هل يعود لكِ الحسين؟ يأتي صدى أصواتهم ولا يأتي صوتُ الحسين!