بكلمات أحر من الجمر في وقعها على نفسه، يعبر عما يختلج وجدانه من مشاعر الأسى والألم بأقسى حالاته، ردة فعل حادة جدًا تقابل ما وقع عليه من نكران المعروف، ومقابلة إحسانه بالنكران والجحود والتجاهل، لم يكن ينتظر الكثير من المديح والثناء على وقفته الصادقة مع من وقع بين كلابتي أزمة خانقة، استطاع بمؤازرته أن يخرجه من عنق الزجاجة، ويخفف من ألمه والوقوف بجانبه حتى خروجه من شرنقة الضيق والحيرة والتقييد بأغلال العجز، فما الذي جناه أو فعله من جريرة حتى يكافأ بموقف أقل ما يقال عنه: إنه قمة الخساسة والدناءة، فحتى البهائم يصدر منها من مواقف العرفان ما يخجل الواحد من انتسابه لكائن جحود كبعض البشر! إنه لم يجن جريرة حتى يقابل بكل هذه الخشونة والإساءة في مقابل فعله الخير، ومساندته لمكروب بح صوته من الاستغاثة فلما ينبر لنجدته على وجه العجلة سواه، فكان يكفيه أدنى بسبسة بشفتين باردتين تنم عن تقديره لهذا الموقف النبيل ومساندته له في وقت عز المغيث والمجيب ، ففي زمن طغت فيه نبرة النرجسية والمصلحية النفعية المقيتة، يستحق أهل التضحيات بوقتهم وجهدهم ومالهم أن يقام لهم تمثال المعروف، أما أن يدار لهم الظهر بعد انتشاله من جب الهم أو الفاقة فهذا يعد بمثابة إعلان وفاة الإنسانية المتجلببة بالمروءة ودفنها في مقبرة التاريخ!
ليست هذه التنهيدة الحارة من قلب مكلوم بتعيير لمن امتدت إليه يد العون يومًا، ولكنها تعبير ممهور بدم من شغاف فؤاد طعن بيد الجحود، فرأسه يكاد ينفجر من كثرة الأسئلة والدوران والبحث عما جناه أو أخطأ فيه ليقابل بهكذا موقف، لو عاد به شريط الذكريات ووقف عند مشهد آلمه وعجز وافتقاده للمعين أو حتى من يسمع صرخته، أفلا يتذكر حينها من ألقى إليه طوق النجاة من الغرق في دوامات جارفة وموجات عنيفة من الأزمات والمشاكل المستعصية – في نظر ناكر الجميل – عن الحل وقتها، يتذكر اليد التي استند إليها وهو يرتعش من هول الأزمة فهو لا يقوى على الحراك أو الوقوف على رجليه حتى، فما عدا مما بدا؟!
وناكر آخر وهو يعتلي منصة التتويج والتفوق وينتظر منه أن يوجه كلمة عرفان وشكر لمن كانوا السبب – بعد الله تعالى – في مشوار نجاحه وتألقه، وإذا به يفاجيئ من وقفوا بجانبه بنكران وجودهم أو حتى الإشارة الهامشية المقتضبة لهم، بل نسب كل ما حباه الباري به من إنجازات إلى قواه الخارقة وجهوده المضنية وقدراته الذاتية، فاتلًا عضلاته الكبريائية بأعلى درجاتها مستعرضًا مسيرته التعليمية أو العملية ناسبًا كل تقدم لنفسه فقط، أفلا تهيج الأوجاع وتغص الروح بكلمات الأسى المتقطعة من إنسان ناكر كهذا، أقفل ذاكرته المثقوبة عن كلمات العرفان!
ليس هناك أصعب من مواجهة الجميل بطعنة التجاهل الغادرة، فصاحب الفطرة السوية يتوقع من الآخرين أن يعاملوه ويقابلوه بمثل ما يصنع هو في مثل هذه المواقف المساندة، فالصادق في مشاعره ومواقفه يعلن مبدأ الوفاء والإحسان لمن امتدت إليه منه صنائع الخير والمعروف أيًا كان حجمها وتأثيرها، ولذا كان ينتظر ذكر موقفه النبيل همسًا وفي نظرات معبرة تحمل آيات الشكر له، فمن قدم لنا عونًا وأسدى إلينا معروفًا لا يقابل ذلك بالتجاهل، بل يستحق الإشادة والذكر لتبقى راية الخير عالية.
ويدور بخلد البعض أن يرد على هذا الجحود وعلى من ينتظر منه هذا الموقف المشين مستقبلًا، بقطع علائق الخير والمساندة والصدود عن أي صوت يصرخ بطلب الوقفة معه، فلماذا يبقى بهذا الضعف ليقابل بالخيبة والخذلان ممن ساندهم بكل ما يقدر؟
أما آن له أن يعيد التفكير في مساعدة أحد ليقع ضحية من الناكرين، فيخرج من دور الإنسان الطيب الذي يهرع لإجابة كل من يدعوه للوقوف معه في عسره؟!
يأتيه وجه جميل مشرق يجيب عن كل أسئلته وحيراته، ويعيد له ثقته بنفسه ويدعوه للاستمرار في طريق المعروف مهما كانت ردة فعل الغير، إنه المعروف متجلببًا في ثوب أبيض ناصع يربت على كتفيه، قائلًا: مهلًا، لا تقطع مساندتك ووقفتك عن أحد، أفلا يستحق جوهري الجميل أن تقدم مساندة لأحد محبة منك لي؟ فتبقى وفي العهد مع معروف لا يقطع أبدًا من نفوس ارتقت لمعاني الإنسانية النبيلة؟!