ولا زلت هي أنا

فجر مستنير مستفيض بعبق قطيف الماضي والحاضر والمستقبل, ويهبط الفجر ساجدا ليوم جديد حيث ينادي المؤذن للصلاة حي على الصلاة, والساعة تشير إلى الثالثة وخمس وأربعين دقيقة صباحًا, أحسست بعدها فجأة بصداع يحاصر رأسي و يشتت أفكاري, فقلت في خاطري أنه يمكن لفنجان القهوة أن يفي بالغرض و يشفي الصداع, وإذا تنتظرني قهوتي تلك الضيفة الأنيقة في طقوسي عند الكتابة, نعم القهوة تعني الجناح الأيمن لي والقلب الأبيض لقلمي, سأجعل من بوحي رسالة لأجمع أنات الصادقين بين سطوري، لأقول ما عجز عن قوله الكثيرون.
حين أهم بالكتابة لا أحدد هوية النص الذي سأكتبه، ولكن الذي يرسم ملامح ما أكتب هو إحساسي لما سيؤول له النص، وعلي في آخر لحظة أن أجد نفسي أمام صورة واضحة الفكرة لما خطه قلبي. تأوهت اليوم حين تذكرت وتحسرت على الماضي وعلى مسؤولياتي حينها, رغم حداثة سني فالمسؤولية أعطتني الكثير بقدر ما أخذت مني! ومن هنا جاءت فكرة نصي, سأحاول أن أترك أثرا إنسانيا لمن يقرأني هنا ولمن يدرك ما أعنيه! لا أعرف إنْ كانت كتاباتي تتميّز عن غيرها أو لا،ولكن أعرف أنّها مختلفة بمقدار اختلاف بصمتي الشخصية عن سائر بصمات البشر الآخرين؛فأنا أكتب بنبضي وفكري ولغتي الخاصّة،ومن يقرأ لي يحسّ بي،ويلتصق بروحي.

يقول جبران : ليس الكرم أن تعطي مالا تحتاج وإنما الكرم هو أن تعطي ما أنت محتاج إليه!! وهنا علي أن أنوه لا تزال غالية الصغيرة التي كنتها يوماً حية ترزق في داخلي وضميري, وعلي أن أحمل طفولتي وذكرياتي معي دوما حتى لا تشيخ روحي, فطفولتي ارجع لها كلما شعرت بظمأ روحي وطهري وعفويتي, رغم شفافيتي الذاتية وتطرفي لمن يسيء إلي وقلبي لا يعرف الحقد.

ليس هناك أجمل من الماضي ولا أمتع،الطفولة الحقيقية تجعلنا نعيش هذا الوهج من الاحتمال والتأمل والتفاؤل, فالماضي من طفولتي ليس دائماً سيئاً و لا دائماً مؤلماً حتى لو لم أعيشها كما ينبغي, رغم إنني كنت أعيش حالة الترقب العذب وما يليه من تنبؤ مجهول وممنوع, فيه من الخوف والفزع والوجع ما يكفي الحذر والتوجس, حينها وكل لحظة تأخذني أفكاري في اتجاه حتمي ومحسوب!! لعلني امرأةٌ مستحيلة ومؤقتة بجرأتي أبدو وكأنني قادمة من الغيم, الحقيقة أنا بعيدة جدا عن الوسط الثقافي حيث تقتصر علاقاتي على عدد قليل جدا من هذا الوسط الرفيع والنبيل ! لذا فضلت التركيز على نشاطي الشخصي فهو من سيقدمني بجودته إلى المجتمع، فأنا أكتب للقراء والتاريخ إن لم احصل على ما أستحق الآن سأحصل عليه في المستقبل. وهنا تذكرت مقولة تشبهني لطاغور الشاعر الهندي: الزمن يفتح الأبواب لمن يُحسن الانتظار.

مرّ العمر هكذا كلمح البصر!! ولكن كيف يمكن للزمن أن يكون طاغيا لهذا الحد! أن يجرف قلوبا ويُغرق أرواحا تحت الظروف التي لا ترحم!! نعم لازلت أنا هي بذكرياتي ولازالت الحياة كما هي لم تتغير، حتى أصابني الصدئ بداخلي, ما من قوة كانت تأسر زمن طفولتي الماضية شئت أم أبيت, فهي تسكن ذاكرتي لأنها سكنت ماضي يوما بل دهرا, بقيت كما هي ثابتة، ولكن أما آن لراحة البال أن تعُطر روحي, وليقظة الأحلام أن توقظ طفولتي المتعثرة التي لم أتذوقها كأطفال جيلي، والتي لا تدري لحد الآن هل انتهت أم سُرقت أم لم تكن يوما حاضرة!! هناك من يشيخ صغيرا مع سبق الإصرار, وهناك من يعيش حياته محروما من حق الاختيار, وهناك من تسجنه السنين وتجعله حبيس الذكرى والحسرة!!

بصعوبة كبيرة تداركت قواي وابتلعت ريقي، ولملمت حروفي براحة يدي وبنبرة مرتبكة قائلة : أيها القارئ الكريم لمَ تقف جاثما هكذا والدهشة تعتري أنفاسك؟ رغم إن البوح يعني لي الكثير الذي اعتبره تحصيل حاصل لأنهي الغضب الذي غطى ملامح إنسانيتي ومساحة نفسي!! أما آن الأوان أن نروي عطش القلوب الطاهرة ونكون ضيوفا في السماء!! نعم لابد للروح أن تنبض بالإحساس!! بهذا أكون قد أنهيت ما أردت اليوم قوله هنا, ارتجفت يداي حتى أسقطت قلمي و أحضرت فنجان آخر من القهوة الساخنة كتلك الأحاسيس التي أشعلتها الذكريات الماضية.

وهذا ما جعلني أكتب هنا بكل اطمئنان بعض ذكرياتي ومشاكساتي, ولتبقى طفولتي أنا ،وأبقى أنا هي غالية.


error: المحتوي محمي