كلما يممت وجهي سفرًا نحو أوروبا أجد ما يشدني ويبهرني ويدهشني على جميع المستويات، ثمة مفارقات حدثت لي صيف هذا العام ضمن جروب مشترك، سأتلوها بأسلوب الحكاية كمن يفتح حقائب سفره.
الحقيبة الأولى:
دخلنا ذات مساء أحد أكبر مولات مدينة ميونخ، وبعد أن انتشر “جروبنا” على المحلات التجارية المتنوعة، وكل يتبضع مع عائلته، حدث لزميلنا “فهد” ما لم يتوقع، وقف عند “الكاشير” الأول وابنه “محمد” عند “الكاشير” الثاني ضمن صفين طويلين، وحينما وصل دور ابنه ليدفع قيمة تبضعه، قدم ورقة نقدية من فئة 100 يورو، أخذتها منه المحاسبة وخطت عليها “بالقلم الخاص”، تقطب وجهها ثم رمقته بنظرة، وقالت له: “العملة مزورة، انتظر من فضلك”، أجرت اتصالًا تليفونيًا في الحال، نادى محمد والده: “يبه تقول لي بأن العملة مزورة”، قال له: “مزورة؟ طيب اخذ عملة ثانية وأعطها إياها.. شنهو المشكلة يعني..”، وبالفعل قدم لها عملة أخرى ورفضتها.
بعد دقائق معدودات وصل أمن المجمع، وطلبوا من محمد البالغ عمره 16سنة التوجه معهم لغرفة التحقيق، رفض الأب وقال لهم: “هذا ابني يا أنا بديل عنه أو أكون معاه”، في البداية لم يوافقوا وبعد أخذ ورد وجدل، ذهب الأب معهم لغرفة خاصة يرافقهم مترجم صومالي لكنه لا يحسن التحدث بالعربي، كلامه مثل الكلمات المتقاطعة.
أجلسوا الأب في غرفة للتحقيق معه كأنه متهم! دار الكلام بأسئلة واستفهام واستيضاح، وأطلعهم على كل العملات وتأكدوا أنها صحيحة بواسطة القلم فقط، ثم قالوا له: لن نطلق سراحك لأننا أبلغنا الشرطة”، لماذا الشرطة؟ قالها مستغربًا، ردوا عليه: “هي قادمة إلينا لابد من أن تقف على مصدر البلاغ، فلا نستطيع أن نعتذر منها وهي آتية وكيف نخبرها ونقول لهم انتهت المشكلة، وأيضًا الفئة (100 يورو ) لم تزل محل شك أمرنا.
وبعد ربع ساعة وصلت الشرطة ومعهم مترجم عراقي، في البدء أسئلة روتينية ثم قالوا له: “هذه العملة من أين لك؟”، استغرب من هذا السؤال وقال: “صرفتها من البنك في بلادنا”، قالوا له: “أعطنا ما بحوزتك”، فأخرج كل ما لديه وعاينوا العملات وأدخلوها عبر جهاز كاشف التزوير ووجدوها كلها سليمة حتى المشكوك في أمرها، وأبلغهم “فهد” بأن “هذه العملة انسكب عليها البارحة إندومي ساخن من ابني الصغير وتركناها على حالها على طاولة الحجرة، جفت وتكونت عليها طبقة عازلة، ولم يدر في بالنا أي شيء ولا نعلم أنها ستسبب لنا هذه المشكلة ونكون في هذا الموقف، أمن المجمع جربوا القلم من جهة واحدة فلم يتضح لهم شيء، لكن في الجهة الثانية صحيحة، ومع الأسف لم يقتنعوا بكلامي، فأنتم عبر هذا الجهاز الكاشف وهو الأقوى حسمتم الأمر نهائيًا، يا ريت كان عندهم مثله وريحونا من هالبهدلة كلها”.
تبادل الجميع ابتسامات الرضا، وزميلنا “فهد” متبرم من هذا الموقف الغريب الذي لم يحصل له من قبل، وقد أخذ من وقته قرابة الساعتين وعائلته تنتظره في قلق وحيرة، وبعد أن أطلقوا سراحه استسمحوا له بمصافحة ودودة وحارة، وقالوا له: “اعذرنا لما بدر منا فنحن نلاحق منذ زمن مزوري العملة في بلادنا أيا كانت جنسياتهم”، ردد الأخ فهد على مسامعنا: “أبي أعرف يا جماعة شنهو جنسية الإندومي”.
الحقيبة الثانية:
مع تباشير الصبح الأولى وقبل نزولنا إلى الإفطار، دوى صوت إنذار الفندق، فهرع النزلاء في ذهول كل ينظر في جميع الاتجاهات، يتسابقون للخروج بارتباك وانفعال وآذاننا تكاد تنفجر من ذبذبات الصوت، والحيرة بادية على الجميع.
لم نر شيئًا يستدعي كل ذلك الخوف، خلال 8 دقائق وصل رجال الإطفاء إلى الفندق وقصدوا غرفة محددة تقطن فيها أختان وهما من ضمن “جروبنا” وغرفتهما مجاورة لغرفتنا، حينما دخلوا لم يجدو أي أثر لحريق أو دخان، كل الذي حدث سببه فوران القهوة على سطح “السخان الكهربائي” صغير الحجم، والذي أحضرتاه من بلدهما لترويقة شرب القهوة العربية، حين تصاعدت رائحة الاحتراق، التقطه كاشف الحريق حالًا فانطلق جرسه المدوي والمرتبط أساسًا بغرفة الكنترول التابعة لإدارة الإطفاء، هرعوا دون أي اتصال من أحد، دخلوا سريعًا الغرفة المحددة لكنهم لم يجدوا أي شيء سوى رائحة القهوة تحشر المكان وانسكاب جزء منها على أرضية الرخام.
هدأ كل شيء، ولم تهدأ مطالب الدفاع المدني إلا بعمل تحقيق لمعرفة ملابسات ما جرى، وتسجيل مخالفة لأنظمة الفندق، والمطالبة بالتعويض المادي، الفندق برأ ساحته من الحدث فألزم قائد “جروبنا” بالتعويض، ورد هو الآخر: “نحن لا نتحمل غرامة من هذا النوع”، حسم الأمر بعد جدل طويل على من تسبب في ذلك لأن الذي حدث يعتبر بلاغًا كاذبًا.
دفعت الأختان مجبرتين ما قيمته 750 يورو، ما يعادل تقريبًا 3750 ريالًا سعوديًا، وذلك بعد التحقيق معهما وأخذ أقوالهما وشرح تفصيلات ما حدث، جرت اتصالات متلاحقة بين المكاتب السياحية هنا وهناك، إدارة الفندق والدفاع المدني وجهتا لومًا لقائدي حملتنا “أنتم تتحملون جزءًا مما حدث، يجب أن تتقيدوا بأنظمة الأمن والسلامة ويكون هذا معلومًا من جانبكم للتنبيه لكل أفراد المجموعة”.
بعد أن سوي الأمر وانتهى كل شيء، تحرك باص مجموعتنا متأخرًا عن موعد انطلاقته اليومية مخترقًا شوارع ميونخ، ولحظئذ قدمت الأختان اعتذارهما لـ”الجروب” وبتأسف عما حصل وهما ترددان: “توبة توبة وهذي آخر نوبة نسوي قهوة في أي فندق كان”، والقهوة فاضت وتبخر ماؤها، ومعها تبخر مبلغ من المال، لو بقي لشريت به أكياس وأكياس من أفضل أنواع القهوة، بل الأهم خسارة مال ولا خسارة أرواح.
وليس صحيحًا أن المال عديل الروح، ولكن روح القهوة تسري في شرايين من يعشقها، فقد قامت الأختان الكريمتان في اليوم التالي بطبخ القهوة على نفس السخان الكهربائي!! ووزعتا القهوة علينا جميعًا، أي مفارقة تكمن في ذلك؟ إذًا لماذا قلتما “توبة توبة”؟
يا جماعة ما همنا ما همنا!!
الحقيبة الثالثة:
تناولنا فطورنا مبكرين وصعدنا كذلك، انطلقنا من “زيورخ” حيث نسكن إلى “انترلكن”، وهما مدينتان سويسريتان رائعتان، وكل سويسرا جميلة بل هي إحدى جنائن الله على الأرض.
تسير بنا المركبة في صعود ونزول، دردشات وحكايات وضحكات والتقاطات صور عبر النوافذ مسلطة على الجبال والخضرة الساحرة، كنت طوال هذه الرحلة المثرثر عبر مايك الباص، ففي صبيحة هذا اليوم البارد والغائبة شمسه المكسوة سماؤه بالغيوم البيضاء والرمادية، طلب مني القائدان مشاركتهما الحديث كالعادة، فتعذرت بقولي: “أصبحت مملًا لكم”، وأيضًا لعدم أخذي قسطًا كافيًا من النوم، فقد آثرت الركون قابعًا حيث أجلس مكتفيًا بالتحدث لعائلتي أتسلى بين همس الكلام وقرمشة الطعام، والتمتع بالمناظر الباهرة عبر النافذة.
بعد لحظات وإذا بجاري في الباص “أبو جاسم” يترجل ويتحرك أمام الجميع ويتصدر مقدمة الباص ممسكًا باللاقطة ليتلوا بعضًا مما خطر على باله من معلومات خفيفة وامتداح وثناء على مجتمع “الجروب”، وأثناء ذلك حاول أن يستدرجني هو الآخر “للمايك” فلم أستجب، وبينما هو يحاول أن يبدل اللاقطة من اليمين لليسار من وراء ظهره، انفلتت بسلكها الحلزوني وارتطمت بكتف سائق الباص.
صرخ الرجل وأزبد وأرعد، ورمى بضعة كلمات إنجليزية وقحة، وحاول قائدا الرحلة تهدئته والتخفيف من روعه لكن دون فائدة، ونحن على مقربة من وصولنا لوسط المدينة، فما كان منه إلا أن اتصل بالشرطة يبلغهم بكلام أدهشنا ونحن نسمعه فاغرين أفواهنا من كثرة التحامل والتدليس علينا.
توقفت السيارة عند محطة مواقف المدينة، وإذا بالشرطة تقف أمام الباب الرئيسي للباص، رجل وامرأة بلباسهما العسكري، دار النقاش وحمي الكلام وبالأخص من قبل السائق، مدعيًا أن أحد الركاب أراد إيذاءه بالمايكروفون موجهًا له ضربة قوية على رأسه! بل تجرأ علينا بأننا متآمرون ضده ونريد قتله!!
يا إلهي ماذا يحدث، بعد ثلث ساعة نزل كل من في الباص جانبًا وذهب قائدا الرحلة مع “أبو جاسم” المدعى عليه وسائق الباص، أخذوا لقسم الشرطة، أدخلوهم لغرفة التحقيق كل على حدة بالتناوب، ثم انصرف عنهم أحد القائدين لاستكمال البرنامج بعد أن أتم استجوابه ساعة من الزمن، وقد أحضر مترجمًا خصيصًا لأبي جاسم، أسئلة وأجوبة ومقارنات بين جميع الأقوال، السائق يقول: “لن أتنازل عن حقي إلا بدفع مبلغ من المال تعويضًا عن الأذى الذي ألم بي”!!
استجواب أثر استجواب، وبعد مرور 3 ساعات سوي الأمر لصالحنا، فقد أتى نتيجة هدوء وعقلانية الإخوة البحرينيين الثلاثة بردودهم الصريحة والواضحة التي لا لبس فيها، وتساؤلهم المشترك الموحد: “أمن المعقول أن نعاديه ونحن بحاجة إليه؟ وكيف نؤذيه وهو يقود المركبة هذا خطر علينا! هل يعقل هذا، وهل يصدق كلامه !”، وبالمقابل كان السائق مستشيطًا غضبًا ويتكلم بانفعال شديد وبصوت مرتفع، والشرطة كانت تقارن القول بالقول، وتعطي نسبًا متفاوتة بين الأقوال.
وأخيرًا، وجهت للسائق الملامة الشديدة من قبل المحققين وألقيت الحجة عليه قائلين له: “طالما تدعي أنهم كانوا يؤذونك من قبل، هل خاطبت قائدي الرحلة عن ذلك، هل أبلغت الشركة المسؤولة عنك؟ هل رفعت بلاغًا لأي قسم من أقسام الشرطة؟ لماذا الآن حين اقتربت رحلتهم من نهايتها تأتي وتتقدم عليهم بالشكوى؟ وأين مكان الضربة التي أصابتك؟ أين الأثر؟”.
في نهاية الأمر قالوا لـ”أبو جاسم”: “إذا رغبت أن ترفع ضده شكوى تعويضًا عن ادعاءاته فلك الحق في ذلك”، فرد في الحال بالتنازل عنه نهائيًا، وخرج الزملاء مختلطي المشاعر ولم يكمل السائق لما تبقى من رحلتنا وهما يومان فقط، فقد أبلغنا قائدي “الجروب” بأن الشركة ستبعث لنا بسائق آخر، بعد أن تمت الاتصالات بهم، فقد استوعبوا الموضوع وعرفوا بتفاصيله.
وبالفعل استجابوا سريعًا، وصل السائق البديل، أطل علينا مبتسمًا مرحبًا بالجميع، وكان ظريفًا وروح الدعابة حاضرة عنده، بل مساعدًا في كل صغيرة وكبيرة، متعاونًا وخفيف الطلة، بخلاف السائق السابق الذي كان بالعكس من هذا تمامًا، فطوال أيامنا معه لم يكن مرنًا وكان عبوسًا لدرجة لا تطاق، وبعد أن غرب عن وجهنا عرفنا أنه ليس نمساويًا، بل صربي يعمل سائقًا مع الشركة السياحية.
هنا تناثر الكلام من أفواهنا، مفاده بأنه حاقد صربي يكره العرب والمسلمين وكل الصرب على هذا المنوال، فقد أحضرنا التاريخ وسبرنا جغرافيا منطقة البلقان وأحوال السكان، ومن جملة ما قلنا أن لديه ضغينة في نفسه مأخوذة من زمن أسلافه أفرغها علينا حقدًا وانتقامًا بل وجدها فرصة ليبتزنا.
وبينما نحن في خضم هذا الاسترسال والاستنباطات والتعليقات على شخصية السائق السابق وعلى مجتمع الصرب عامة، توقف الباص عند منطقة طلبها جميع “الجروب”، ألا وهي قرية الطفلة “هايدي” بطلة الحكاية الشهيرة التي مثلت أفلامًا وقصصًا مصورة وأفلام كرتون.
نزلنا وحواسنا مأخوذة بجمالية المكان، نسترجع حميمة الذكريات، نلتقط الصور ورذاذ المطر يتساقط علينا، وبينما نحن في هذا الجو الأخاذ، سألت السائق اللطيف والنشوة تملؤني: “كل مناطق بلادكم جميلة ورائعة وتسحر الألباب، أنت من أي مدينة في سويسرا؟”، رد بابتسامة: “أنا لست سويسريًا، أنا من بلغراد من صربيا”.
لملمت بعضي وأغراضي وأغلقت آخر جيب من حقائبي موجهًا سؤالي إليها: “لماذا أنتِ في مأمن بمجرد عبورك من بلد إلى بلد أوروبي؟ تعبرين بسلام ولا أحد يستوقفك، ومن ذا الذي ينظرني؟ طالما جمارك الحدود ببنهم غير موجودة، أعلم هم يتبعون الأنظمة والقوانين ومطبقة على الصغير والكبير، أما أنتم فلا”، وخاطبتني حقائبي بعتاب: “قل لجمارككم العربية أن ترحمني إذا عبرت، ولا تعبث بخصوصيتي، ومتى تكف عن مصادرة الكتب التي بحوزتي؟”، قلت لها: “كيف؟ لست أفهم ماذا تقصدين!”، قالت: “مع الأسف لن تتغيروا طالما أفكاركم مقيدة بحدود وعقولكم مجمركة”!