حقائب سفر 2-1

كم حملنا من حقائب، وكم جرجرنا من أمتعة سفر، نضع اسمنا أو علامة تخصنا لكي لا تضيع منا تلك الحقائب بين زحمة المطارات والموانئ والبشر، الحقيبة جزء منا مهما صغرت أو كبرت، هي رفيقتنا الدائمة لا غنى عنها أبدًا في كل سفر، هي أبعد من الترحال هي ذكرياتنا بل محطاتنا في الحياة، فحياتنا مقسمة بين مواسم وفصول، وانتقال بين حيز وأمكنة وبين حقب وأزمنة.

ترتبط العطلة الصيفية، عند الكثير من العوائل بالسفر، نظرًا لطول أيامها الآتية بعد عام دراسي حافل بالتعلم والتحصيل المعرفي والمتابعة والمذاكرة للأبناء بالإضافة لقلق الامتحانات والسباق نحو الدرجات، وتحصيل المستويات، ونيل الشهادات، وينقضي عام وتغلق المدرسة أبوابها، وتأتي العطلة الصيفية ومعها تفتح أبواب السفر جوًا وأرضًا وبحرًا، عبور بانطلاقات الشوق بعد مشوار العناء المدرسي، وثمة خصام عندنا بين حقيبة السفر والحقيبة المدرسية، تحمل الأولى بفرح وهي الأكبر والأثقل وزنًا، وتحمل الثانية بتثاقل وهي الأخف وزنًا والأصغر حجمًا، ومن قرر السفر إلى أرض الله الواسعة، فهو الأعرف قبل غيره بحجم حقائبه غير المرئية، ظروفه العائلية، إمكانياته المادية، وضع الميزانية المناسبة له، حسب نوعية السفرة ومكانها، وعدد أيامها، وغيرها من الأمور الترتيبية، وما أن يحين موعد الانطلاق، تحزم الحقائب المرئية، وتحمل الحقائب اليدوية، نفوس تتوق للترحال ذات اليمين وذات الشمال، كل له وجهته وغايته، والحقيبة ظل المسافر.

في الماضي كانت خيارات السفر بالنسبة لأغلبنا متاحة للبلدان القريبة منا، حيث الأمور كلها ميسرة وسهلة التحرك، لكن مع المتغيرات الإقليمية وما جره الخريف العربي من ويلات، انعدم التوجه لبعض البلدان العربية والإسلامية، فانفتح المجال إلى دول عدة من ضمنها الأوربية، فهي وجهة ازداد السفر إليها في السنوات القليلة الماضية أكثر من أي وقت مضى، وهذا راجع للدور التنافسي الترويجي الذي تقوم به المكاتب السياحية للقارة العجوز، عروض تقدم بفنون التشويق والتسويق عبر وسائل الاتصال الحديثة وبطائفة مكثفة من الدعاية والإعلان ، فتنساق الأنفس بصنوف الرحلات الجاذبة والمدعمة بالصور ذات المناظر الساحرة والأماكن النادرة، بالإضافة لإعداد البرامج الترفيهية والخدمات السياحية، فكل مكتب يحرص على تقديم أفضل ما عنده، بوضع جداوله المتنوعة من حيث الأماكن وعدد الأيام ومبيت الليالي؛ قائمة مفصلة كل له سعره، حجوزات حصرية وأخرى مفتوحة سواء عبر السفر الفردي أو العائلي، أو ضمن تجميع (جروب) باسم المكتب، الذي يتولى بنفسه تنظيم الرحلة كاملة من وإلى؛ عبر برنامج معد سلفًا، فبعض العوائل تفضل هذا الخيار، طلبًا للراحة وعدم الانشغال بأي شيء، وكلا النوعين من هذا السفر سواء الشخصي أو الجماعي له من السلبيات والإيجابيات، والخيار يقع أولًا وأخيرًا على قناعة الشخص المسافر وحساباته.

بالنسبة لي شخصيًا جربت كلا النوعين وخبرتهما عن قرب، وأعرف مساوئهما ومحاسنهما، وطبعًا لا ألزم نفسي على الدوام بأي واحد منهما، مرة أختار هذا ومرة ذاك، حسب ما هو متاح أتوجه إليه، المهم عندي الانطلاق ورؤية العالم، ومن حسن حظي سافرت لأوروبا بصفة ثنائية قبل 30 عامًا منذ مطلع سنة 1410 هجريًا، ومترددًا عليها بين الفينة والأخرى، وبين الأمس واليوم وجدت فارقًا كبيرًا، ففي السابق كانت الأسعار مقبولة إلى حد ما، وتتفاوت من بلد لآخر حسب قيمة العملة والوضع الاقتصادي لكل دولة.

وأيضًا في الماضي؛ من النادر أن نرى السواح الخليجيين، كما هو حاصل اليوم، باستثناء لندن، وقليل في باريس، أما العرب من جنسيات مختلفة فهم متواجدون منذ عقود بحثًا عن لقمة العيش والكرامة، وموطنوا المغرب العربي لهم النصيب الأوفر من التواجد، فقد منحت لبعضهم الجنسية خصوصًا في الدول الإسكندنافية والأراضي المنخفضة، بشرط أن يكون حسن السيرة والسلوك أو ذا تخصص علمي يفيد الدولة التي يعيش فيها، وفي الغالب أن معظم الدول الأوروبية تعطي الجنسيات وفق معايير معينة تخصها ودستور يحكمها.

حاليًا فمن يزور أوروبا سوف يرى السواح الخلجيين فرادى وعوائل و(جروبات)، متواجدين بكثرة في الأمكان ذات الجذب السياحي تلمحهم بين الطبيعة الخلابة من أنهار وشلالات وبحيرات ومرتفعات التزحلق على الثلوج، وتجدهم في أماكن التسوق وملاهي الأطفال والحدائق وفي (سنتر المدينة) والمصحات العلاجية، أفواج وأفواج منتشرة بأزيائهم اللافتة ومن كثرتهم تحسب أنك في منطقة خليجية! فترى عبايا الرأس والكتف والنقاب والبرقع والخمار والحجاب، وأيضًا العكس من ذلك تمامًا ترى (الهياتوه والشعر فله) والاستعراض على آخره – وكاتب السطور ليس ضد أو مع، فقط ينقل المشهد – وأيضا نرى الغترة والعقال والدشداشة والثوب والكندورة ولكن بنسبة أقل، عمومًا كل صنوف الألبسة التقليدية تشاهدها وحتى تصرفات الفوضى تجدها حاضرة، وقد فطن القائمون على صناعة السياحة في تلك البلدان بترويج بضاعتهم للعرب على أحسن وجه، فقاموا بالكتابة على الأماكن الحيوية بالأحرف العربية، لزيادة الجذب والاستقطاب أكثر وأكثر، وأيضًا فتحت مساجد والتي لم تكن موجودة من قبل، واستغل الأخوة الشوام والأتراك المقيمون في تلك البلدان بالعمل في مجال الترجمة وبفتح الكثير من المطاعم التي تقدم طبخات المندي والبرياني والكبسة وكل صنوف الطعام الخليجي، وزيادة في توفير الخدمات الإضافية تجد (الحلاق، والكوافير، والمغسلة، والمساج، والبقالات، وأشياء أخرى….)!

لوحات المحلات كتبت بالحرف العربية، يتبعها كم هائل من النشرات والإعلانات والكتيبات والمجلات كلها مزودة بالصور وبالشرح العربي، مستثمرون عرفوا من أين تؤكل الكتف، طالما الجيب الخليجي سخيًا وكريمًا وتواقًا للأماكن الخلابة الباردة هربًا
من سموم الصيف، واستهلاكات الحياة الرتيبة.

التجول في عموم أوروبا برغم جمالياته المتعددة لكنه حقيقة باهظ الثمن فمستوى المعيشة حاليًا عالٍ جدًا نظرًا لارتفاع دخل الفرد، حتى أوروبا الشرقية التي كانت رخيصة فيما مضى، أصبحت تقترب غلاء من أوروبا الغربية، ولاسيما المنضوية تحت عباءة اليورو.

المثير مما شاهدت خلال السنوات القريبة الماضية كثرة العمالة الإفريقية وبالأخص البنجلاديشية، وبعضهم متسكع في الشوارع، وأيضًا هناك كم هائل من اللاجئين العراقيين والسوريين والصوماليين والأرتريين، ومن مختلف دول إفريقيا فارين من محن بلادهم يكدحون كدحًا في مهن شاقة وأخرى وضيعة، وكل دولة تمنح المقيمين على أراضيها إذا كانوا عاطلين عن العمل قدرًا بسيطًا من المال للإعاشة.

في عطلة صيف هذا العالم سافرت إلى ثلاث دول أوروبية بصحبة العائلة ضمن جروب مختلط مكون من ثلاث دول خليجية بقيادة وتنظيم أحد المكاتب البحرينية الشهيرة، كانت رحلة ممتعة وشيقة استغرقت أسبوعين وهي بالنسبة لي تجديد لسفراتي القديمة، لكنها أمدتني بزاد معرفي واستطلاعي مختلف، باكتشاف أماكن ومعالم لم أكن أعرفها في السابق بالإضافة لزيارة العديد من المتاحف الجديدة، والتي تعتبر فخرًا لتلك البلدان ومحل استقطاب ملايين من البشر، وعلى الرغم من هذه المكتسبات المفيدة الشخصية فقد واجهتني ضمن المجموعة منغصات ومواقف مزعجة لم تحدث لي من قبل.. سأسردها وكأني أفتح بعضًا من حقائب سفري، بعيدًا عن النبش في التفاصيل؛ هي ثلاث حقائب ربما تبدو ثقيلة الوزن، لكنه وزن من المفارقات والمفاجآت غير المتوقعة.


error: المحتوي محمي