الأذان الروحي للحج

لطالما كانت رحلة الحج لبيت الله الحرام موضع تعجب أو اعتراض ممن نظر لها بمنظار مادي بحت، فالأمر عندهم لا يعدو عن طقوس غريبة تتمثل بالطواف حول بيت من حجارة، في خطوات غير مفهومة في مخرجاتها وتأثيرها وفوائدها العائدة على من قطع الفيافي، وأدى تلك المناسك في أجواء وظروف مناخية حارة متحملًا لتكاليف مادية كان الأولى به أن يضعها في قائمة مصروفاته الأساسية لتوفير مستلزمات حياته الكريمة بدلًا من إهدارها!

هؤلاء الماديون أو الملحدون لا يؤمنون بوجود جزء مهم في تكوين شخصية الإنسان ألا و هو الجانب الروحي، والذي له احتياجاته تمامًا كالجانب الجسدي المادي لا يسدها إلا وجود محطات تكسر الجمود واليبوسة والجفاف من روحه، وكل ذلك مبني على نظرة شاملة لوجود الإنسان والحياة، فما الدنيا إلا محطة أولى وليست نهائية من حياته التي تختتم بالموت في جزء منها؛ لتبدأ حياة الخلود الأبدية القائمة في مسارها ومآلها على عمله الدنيوي.

الجانب العبادي يمثل حاجة روحية للإنسان تورثه الطمأنينة والهدوء في وسط صخب الحياة وتموجاتها العاصفة، يحتاج إلى دكة يلقي عليها متاعبه ومشاغله ويتخلص فيها من ضغوط نفسية تؤرقه، فيلجأ إلى محراب العبادة مستشعرًا الثقة بتدبير القوي العزيز لأحواله والكون من حوله؛ لتنشأ عنده تلك القوة الإيمانية التي تلقي بظلالها على جميع أبعاد حياته وخطواته وعلاقاته، فتلك الروح المتعلقة بالله (عز وجل) والآنسة بذكره والمطمئنة لوعده تلتزم الورع والخشية منه تعالى، فيراعي الحاج بعد إتمام تلك الدورة العبادية التدريبية الأوامر الإلهية ويرقب كل كلمة وتصرف منه، وفي لحظات الشدة والكرب يلجأ إلى ربه مستمدًا منه العون والصبر.

هذه الرحلة الروحية التي يخلف فيها المؤمن كل شيء وراء ظهره طالبًا الانقطاع إلى المولى، وتلتقي روحه في أجواء الصلاة مناجاة الرب واستشعار عظمته والخوف من عقابه، وفي خطاه التي يقطعها بكل سكينة وتؤدة في طوافه يقترب قلبه ووجدانه من الكعبة المشرفة في إيحاء بشدة اللصوق بالأمر الإلهي ومجانبة كل ما يسخط الباري، وكذا في سعيه بين الصفا والمروة يلتزم بحدود في المكان والعدد لا يتصرف فيها بزيادة أو نقيصة، في رمزية لوأد الأهواء والشهوات وتجنب اتجاهها في أي خطوة يخطوها، واضعًا نصب عينيه منذ أحرم ولبى ترك المحظورات والتوقي من فعلها، أفلا تهذب هذه المناسك العبادية – على تنوعها في الحج – سلوكه ووجدانه وعلاقاته، فيلتزم بروح التسامح والتصبر.

فالتعامل الأخلاقي الرفيع مع الحجيج في أوقات الزحام كالطواف وغيرها، وضبط النفس والانفعال واحترام الآخرين من الغايات التي يحث ويؤكد عليها الشارع الحنيف، وفي دورة تدريبية مهمة يمر الحاج باختبار عليه أن يراقب نفسه وأعصابه.

ولنتصور القيمة العالية لرحلة الحج الروحية وهي تضبط الحاج في جوارحه فلا تنطلق في فضاء الحرمة والعدوان، فإذا التزم الحاج حينما يرجع إلى بلده هذه القيم من غض البصر ولجم الشهوات عن العدوان، أفلا يصنع الحج شخصية إيمانية ورعة تصاغ بالعفة والخوف من الله تعالى واليقظة؟!


error: المحتوي محمي