القطاع الخاص ظلال إقطاعية

القطاع الخاص العتمة التي لم تبادرها الشمس حتى الآن ببصيص من الضوء الكافي الذي يرمم أحداق البوصلة، يحتاج لمبادرات جادة وشجاعة ونافده ابتداء من تعديل النظام البالي لساعات العمل وانتهاء بوضع حد رادع للفصل التعسفي الذي استحدثه نظام العمل الجديد.

العامل السعودي يعتبر القطاع الخاص مكانًا احتياطيًا لا يعول عليه في مستقبله ويجعله عادةً الاختيار الثاني؛ ففي واقع غير جاذب يضع الموظف كل آماله على وظيفة تطل عليه من القطاع الحكومي لتنتشله وتضبط المعادلة بين العمل والحياة من مخالب الاستحواذ إلى التوازن المتصالح مع حق الإنسان في الاحتفاظ بذاته الخاصة؛ فتلك الصورة النمطية لموظف يقضي كل يومه في الوظيفة لم تعدد مقبولة في الوعي العالمي الجديد، يغادر المنزل منذ السادسة صباحًا ولا يعود إلا السابعة مساء حيث يجد أبناءه استسلموا للنوم استعدادًا للمدرسة، وتكمن نقطة فراغ حرجة بين الأب المصاب بلوثة القطاع الخاص وحياته، علاقة ممزقة بخناجر الشركات التي تتلذذ بالاستحواذ على الموظف لحسابها الخاص؛ أن يحتاج الطفل إلى أبيه معنويًا وتعليميًا فلا يجده إلا مصدرًا لصرف المال وحسب.

ثمة خطأ واضح ومنطقي في الحد الأعلى لساعات العمل إذ تتعامل القوانين المتحجرة مع الموظف على أنه مجرد عن أية اعتبارات أخرى كواجباته الأسرية وصحته وطموحاته الثقافية والرياضية.

الموظف السعودي في القطاع الخاص القابع في كهوف الدوام الأطول عالميًا يتمتع بإجازة سنوية قصيرة جدًا لا تزيد على 22 يوم عمل إلا أنه يستغلها أيضًا في تعويض الاستئذان لمعاملاته الحكومية الضرورية ومواعيده ومواعيد زوجته وأطفاله الصحية والمدرسية فلا يتبقى منها إلا اليسير، ونظام العمل في القطاع الخاص لم يضع تقنينًا يحمي الموظف ويعطيه الحق لممارسة هذه الأمور البديهية، ربما لأن هذا النظام كان قد تأسس في بداياته على مقاس الأجانب الذين تتكفل الشركة بكافة معاملاتهم الحكومية، ومع ذلك فالجميع يتعرضون لابتزاز الشركة من تلك الإجازة الرخيصة التي لا تتناسب مع الوقت الهائل المستهلك من السنة خلال ساعات الحد الأعلى.

علينا أن نعترف أن هنالك تفاصيل أكثر موجودة في نظام الخدمة المدنية تنظم العلاقة بين العامل ورب العمل قد تجاهلها نظام وزارة العمل، بالتوازي مع مطالبات متراكمة بتوحيد نظامي الخدمة المدنية والقطاع الخاص بشكل إيجابي جديد ومفصل تمهيدًا لخصخصة الكثير من المرافق الحكومية حسب الرؤية الاقتصادية المخططة للمملكة.

تمسك نظام وزارة العمل بأسلوب ساعاته القديم المؤسس منذ الخمسينات على أنقاض النسخ القديمة لأنظمة العمال الغربية التي طورت نظرتها للإنتاجية بالكيفية لا بالكمية وأسرعت بنظام الساعات إلى المعاصرة الخلاقة وأسست عيد العمال احتفاءً بالأحداث الدامية للمطالبة بخفض الساعات في الولايات المتحدة الأمريكية، وطرأت قيم جديدة تعطي التاجر القدر الذي يتطلبه الربح المعقول بما يكافح عبودية الموظف الناعمة للوظيفة والشركة، ولكننا بالمقابل ما زلنا نتعمد التقهقر عنها، وغير بعيد عن ذلك شركات العصب الاقتصادي السعودي ومنها أرامكو وسابك والكهرباء والاتصالات والبتروكيميا وغيرها ودورها في المحافظة على دوام أربعين ساعة أسبوعية؛ لعل هذا يكشف عن وجود هدر غير ضروري للساعات لصالح بعض الشركات على حساب الموظف المغلوب وهذا يعد فسادًا من نوع آخر، فسادٌ في العلاقة العمالية وترجيح الكفة لصالح الأيدي الناعمة على حساب الكادحة.

ثمة جدال متزمت غير حميد يعمد له التجار لتهويل خفض ساعات العمل وإحراج المقترحات والتوصيات التي بدأت منذ عهد الوزير الراحل غازي القصيبي ولم تنته بإجماعات الشورى المتتالية على حق الموظف في خفض ساعات العمل إلى الأربعين مع تمتعه بإجازة يومين أسبوعيًا، وإذا استثنينا الشركات الكبرى التي تلتزم بالأربعين ساعة سنعثر على التجار ذوي الشركات المحدودة بوصفهم جهة ربحية فردية وهم يتشبثون بكافة الذرائع الواهية وشبه الواهية للإبقاء على آخر تركات الإقطاع الوظيفي المتمثلة في زيادة غير منصفة في ساعات العمل.

لقد مورست مع الاقتصاد السعودي سابقًا تهويلات عابثة مماثلة حين أرادت المملكة دمج دوامي البنوك إلى دوام واحد أسوة بكافة دول العالم، وقتذاك كان بعض الانتهازيين على متكأ المصلحة الشخصية يهولون ويعارضون هذا الدمج على أنه سيضر باقتصاد المملكة وسوقه المالي وما إلى ذلك من التهويلات التي كانت تدعم فريةً كبرى على الاقتصاد السعودي بأنه هش ضعيف ويجب أن يخضع لعزلة خاصة بعيدًا عن الأنظمة الاقتصادية المحيطة، هذا التكتيك التهويلي ما يزال يتكرر من قبل منتفعين آخرين يعتصرون ويغتصبون الحقيقة من أجل منافعهم الهامشية التي لن تضر بالمتن الربحي الذي تمتعوا به طوال أعوام في دفن الموظف في شركات تحولت الآن بفعل البصمة والبوابات المدججة بالأبواب الإلكترونية إلى معتقلات تعسفية تحول دون التزامات الموظف الضرورية إلا بتآكل إجازته السنوية، ولعل المفارقة تبدو هزلية أكثر من اللازم إذا أشرت إلى أن الشركات المتعددة الجنسية لا تتمتع بهذا القدر الوافر من ساعات العمل أسبوعيًا إلا داخل المملكة، مما يعني أن هذا القدر المتجاوز من الساعات لم يكن ضروريًا لهذه الشركات لتحصيل أرباحها خارج المملكة، لكن نظام العمل القديم في المملكة دللها أضعاف ما تعترف به لها الدول الأخرى من وقت الموظف.

آن لنظام العمل في القطاع الخاص أن يشمر عن حياديته بين الموظف والتاجر وينتفض أمام الإقطاع الوظيفي القديم ويرمم العوامل الأخرى التي تفرغ الموظف لتأسيس أبنائه تأسيسًا وطنيًا علميًا تربويًا يكفله حضورهم في كنفه وتمتعهم ببعض الوقت الذي تنهشه الشركات بلا هوادة تحت ظل نظام العمل المتهالك.

القطاع الخاص يحتاج حقًا لتلك اليد الشجاعة التي أتاحت للمرأة أن تقود سيارتها إلى العمل وتلك اليد الواعية التي كثفت بصماتها على مختلف نواصي الإنجاز.


error: المحتوي محمي