فيما بقي لنا من السنينِ التي دونها لنا الربُّ نستذكرُ ما كان سببًا أن نكتبَ هذه الذكرى. نكبرُ وننظر إلى ما فعلناهُ في زمنِ ضيقِ الفكرِ واتساع دائرةِ الأحلامِ التي ربما جلبت لنا الخيبةَ لو صدقناها! مطلعَ عام 1980م كنا ندرس اللغةَ الإنجليزية في معهدِ اللغةِ الملحق بجامعةِ تولسا في ولاية أوكلاهوما أنا ومجموعةٌ من الشبابِ الذين لم يكن لهم هم سوى دراسة اللغةِ الإنجليزية لبضعِ ساعاتٍ في الصباحِ واللهو واللعبِ في المساء. نخرجُ من الشتاءِ ونلاقي الربيعَ لم نكن نحملُ من هم الدنيا صغيرًا ولا كبيرًا. ربَّاهُ كم تبدو الدنيا ورديةً كلها في زمنِ الصبا؟ أحيوا حياتكم كلها حتى لا يأتي زمنٌ تقولون:َ ليتنا عشناها. يفرشُ القدرُ خُوانَ الحياةِ مرةً واحدة؛ سيانَ من ذاقَ ومن لم يذق.
جاء شهرُ أبريل واجتزتُ امتحانَ “التوفل” باكرًا وسُمح لي بالانضمامِ للجامعة قبل انتهاءِ فصول المعهد. انفصلت عن أصدقائي فأصبت بالوحدةِ والإحباط. كان عندي سيارةٌ اشتريتها بألفِ دولار من قبل وبعتها. استمر ذلك الشعورُ البائس وكنت أعلل نفسي بأن الأمرَ سيختفي بعدما أنشغل بدروسِ الجامعةِ ولكن الأمر ازداد سوءًا. قررت أن أقطعَ الدراسةَ وخطرت ببالي فكرةٌ لكي يتحقق هذا القرار. كان وليام براي “William Pray” مرشدنا المعين من قِبل شركة أرامكو والناظر في حاجاتنا جاء في زيارةٍ لنا. اتصلت به وأخبرته أن والدي مريضٌ ويحتاجني لرعايته مما يتطلب مني قطع الدراسةِ والعودة للوطن. وليام لم يصدق الحيلةَ فقال لي إنه سيحاول الاتصالَ بأسرتي ليستطلع الخبرَ قبل قبوله أو رفضه. ولكي تكتمل الخطة قمتُ مباشرةً بالاتصالِ بأهلي وأخبرتهم بما نويت فعله وطلبت منهم الموافقةَ والطلبَ من وليام السماحَ لي بالعودةِ للوطن فلم يمتنعوا عن أداءِ ما طلبت.
اتصل وليام بأسرتي وأعلموه بمرضِ والدي ووافقوا على عودتي. اتصل بي وليام وكان الاتصال كالتالي: “إبني، سأرسلُ لك تذكرةَ العودةِ لبلدك لكن لا تطلب مني الرجوعَ للدراسةِ في الخارج مرةً أخرى”. وقعتْ عليَّ موافقته كالصاعقه وأخذت الدنيا تدورُ من حولي؛ الرجوعُ بالخيبةِ وحديثُ الناس عن فشلي؟ أم تحمل الحياة في الغربةِ قليلًا ثم تنفرج؟
لم يطل التفكيرُ كثيرًا فأعدتُ الاتصالَ به وقلت له “وليام… أطلبُ منك نسيانَ المحادثةِ السابقة فأهلي لم يعودوا بحاجةٍ لي ولن أعودَ للوطن الآن”. لم أر وجهَ وليام لكن أتخيله كان مبتسمًا ويقول: “ظننتك كنتَ خاطئًا من قبل ولكنك اتخذتَ القرار الصائب الآن”.
انشغلتُ بعدها بالدراسةِ بجديةٍ أكبر وبعدها بعامٍ أو أقل التحقت بي زوجتي وسارت الأمورُ على ما يُرام. ماذا لو كنت اتخذت القرار الآخر؟! لم أر وليام بعدها ولا أدري ما حل به منذ ذلك الحين ولكن الذي حدث كان مصداقًا لقولِ الإمامِ علي (عليه السلام): “صديقكَ من صَدَقَك لا من صدَّقك”. وليام لم يكن صديقي ولكنه رأى أن هذا واجبه وهو قام به بأكثر من القدر المطلوب.
يبقى السؤال في داخلي؛ ماذا لو يكن هناك وليام؟ هل أكون أشقى أم أسعد؟ أكثر مالًا أم أقل؟ تساؤلاتٌ تشبه سؤال ماذا لو مت؟ ولكن لم أكن أكتب هذه الذكريات. تزورنا الفرصُ قليلًا في الحياةِ وعندما تزورنا علينا أن نعانقها ونشدَ عليها ألا ترحل.
يتجاذب ميولَ الشبابِ إلى التفاهة في عجلةِ القرار، والنجاحُ في المغامرة؛ أمرانِ لا بد من نظرهمَا في الصورةِ الكبرى لحياتنا. بعد كل قرارٍ في الحياة؛ِ دمعةٌ أو ابتسامة، ابحث عن ذاكَ الذي يأتي لك بالابتسامةِ ولو بعد حين.