لم يكن التشريع الإلهي في قوله تعالى {ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما} إلا تكريمًا للوالدين لما يقومان به من دور ومسؤولية تجاه أولادهما، إلا أن البعض من الآباء والأمهات استخدموا هذا التشريع ليبسطوا سبطرتهم على أولادهم، ويشهروه سيفًا يرهبونهم به، فهل يصح أن يتحول الدين إلى سلاح يُمارس فيه القوي سُلطته على الضعيف؟
صحيح أننا لا نملك الحق في محاسبة آبائنا ولا أمهاتنا مهما فعلوا، وليس هذا هو ما نصبو إليه في هذه المقالة.
إننا في مستهل حديثنا نوجه دعوة صادقة للآباء والأمهات لوضع حد لسلوك الإرهاب تجاه الأبناء، وعدم استغلال الدين في مثل هذا السلوك الخطأ.
الوالدان هما لبنة التربية الأولى للأبناء، وهما المسؤولان عن زرع بذور القيم الفاضلة في نفوسهم، في حين أن السلوك الإرهابي داخل البيت يمثل انحرافًا عن الدور الذي أراده التشريع السماوي للوالدين.
من جانب آخر، فإن الأبناء لا يختارون آباءهم ولا أمهاتهم، وليس بيدهم تربيتهم، ولا تغيير سلوكهم، أو تصحيح توجهاتهم الخاطئة، وبالتالي فإن مشقة العيش في ظل أب أو أم يمارسان الإرهاب تجاه أولادهما، أصعب من تحمل ابن عاق.
والعجب كيف يتقن بعض الآباء والأمهات التغني بشعارات البر، بينما سلوكهم يحكي الإساءة لأبنائهم، فكيف سيتربى الأبناء على تقديس الأبوة والأمومة ورعاية حقوقهم؟
إن التربية تعني الرعاية الشاملة والمتكاملة لشخصية الإنسان من جوانبها الأربعة: الجسدي، والنفسي، العقلي، والاجتماعي، بهدف بناء الفرد بشخصية متوازنة ليستطيع ممارسة حياته بفاعلية، والتكيف مع بيئته.
والتربية هي تحصيل للمعرفة، وتوريث للقيم، وتوجيه للفكر، وتهذيب للسلوك.
ومع الأسف الشديد لم ينتبه الكثير منا لظاهرة عقوق الآباء للأبناء على الرغم من أنها ظاهرة قديمة إلا أنها تأخذ صورًا وأشكالًا متعددة، فتجد البعض يكذب أمام أطفاله، ويشتم أقاربه وإخوانه، ثم يلقلق بلسانه: لا للكذب، ولا للغيبة؟! هنا تهشم دور القدوة في نفس الأولاد.
وتجد أحدهم يتشاجر مع زوجته، ويتفنن بضربها، وينهال عليها بأنواع السب والشتائم، ثم يأمر أولاده بالبر بوالدتهم، فأي تناقض هذا؟
وهناك من ترمي زوجها بأنواع التهم، وتسيء التعامل معه، ولا تعير لحديثه أي اهتمام، ثم تحكي مع بناتها كيف تحافظ المرأة على بيتها الزوجي، وتراعي مصالحه، وتهتم به، إنه تناقض عجيب.
وهناك من يغيب بالأسابيع أو الأشهر عن أسرته وعياله، بمبرر السعي لتأمين متطلبات الحياة، وحين يكون معهم تراه منشغلًا عنهم، فجسده في مكان، وروحه في مكان آخر.
ويتجه البعض لصور أخرى في علاقته مع الأبناء، ومنها: المقارنة السلبية بين الابن وإخوانه أو أقرانه، مما قد يولد روح العداوة في نفس الابن، وأيضًا التأنيب واللوم المستمر للأبناء بكبر أو بدون مبرر، وهذا من شأنه أن يزرع في نفسية الابن الرفض لأسرته، وقد يفكر في الهروب من تلك البيئة التي تشعره بالدونية.
ومظهر آخر يتمثل في كثرة الأوامر التي تجعل الابن يعتقد أن وجوده في الحياة كخادم وليس كإنسان من حقه أن يتمتع بكامل إنسانيته.
كل هذه المشاهد تمثل عقوقًا من الآباء والأمهات لأبنائهم، وينبغي أن يدرإ هؤلاء خطورة هذا الأمر، وأن يضعوا له حدًا، كي لا يأتي اليوم الذي يندمون فيه على ما اقترفته أيديهم.
إن حقوق الأبناء على الوالدين كثيرة بالقرآن والسنة المطهرة، إلا أن الكثير من الآباء والأمهات يهمل ذلك الجانب في تعامله مع أولاده.
إن التربية اليوم كثيرًا ما يغيب عنها لغة الحوار بين الآباء والأبناء، والأسوأ أن تسود أجواء العلاقة الانتقاد الدائم للأبناء والتربص بهم أثناء كل حركة تصدر منهم، أو كلمة يتفوهون بها، وبذلك يتولد لدى الابن إحساس بأنه مرفوض، ويصيبه الإحباط، وخيبة الأمل، ويفقد الثقة بقدراته وإمكانياته، وقد ينتج عن هذا الوضع الخوف الدائم من القيام بأي عمل أمام الآخرين، وقد يقتل ذلك روح المبادرة لديه.
ولكي يلامس حديثنا الواقع، ولا يكون مجرد حديث نظري، نعرض هنا تجربة شخصية لإحدى الفتيات، تقول ابتسام: “نشأت في بيئة محافظة، لكنها تعيش واقعًا متخلفًا، فالأقوى شخصية يكون قائدًا على أقرانه، وكان من الصعب أن أدلي برأيي، وكل فكرة تراودني كانت تقابل بالقمع، فأثر هذا الواقع كثيرًا على نفسيتي، وأضيف على ذلك التمييز الذي كان يمارس بيني وبين إخواني، وغياب لغة الحوار جعلني أنثى لا رأي لها في محيطها”.
وبلغة يعلوها الحزن، تختم ابتسام حديثها بقولها: “لا أعلم إلى أين سنصل بهذا الواقع المؤلم؟ أملي أن يلتفت الآباء والأمهات إلى قوله تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر}.
والسؤال الذي يفرض نفسه: ما هي الدوافع وراء عقوق الآباء والأمهات لأبنائهم؟
سوف أستعرض بعضًا من تلك الدوافع التي تخلق هكذا واقع:
أولًا – صراع بين الأجيال؛ فجيل الآباء يريد أن يستنسخ واقعه وما نشأ عليه إلى جيل الأبناء، وقد غاب عن هؤلاء قول أمير المؤمنين الإمام علي: ((لا تقسروا أولادكم على آدابكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم)).
ثانيًا- الخوف الشعوري واللاشعوري؛ الذي يجعل الآباء يشعرون بالرغبة في السيطرة على الأبناء.
ثالثًا- الحاجة المادية؛ التي تلجئ الأب للسفر باحثًا عن المال، متناسيًا الحاجات النفسية والمعنوية لأبنائه، والتي قد تفوق حاجتهم المادية.
وإن شاء الله أوفق في المستقبل للحديث عن معالجة حقيقية لهذا الواقع المتمثل في عقوق الآباء والأمهات لأبنائهم.
وأختم حديثي بالتأكيد على أن الأبوة والأمومة ليست تشريفًا للآباء والأمهات فحسب، إنها تكليف سماوي يحمل الآباء والأمهات مسؤولية عظيمة تجاه أبنائهم فعليهم أن يكونوا بقدر تلك الأمانة التي وهبها الله سبحانه تعالى، وإذا كانت تلك الأمانة تحمل من المشقة والعناء الكثير، فإن الثواب على قدر المشقة.
نسأل الله سبحانه أن يوفق الآباء والأمهات لتحمل تلك الأمانة؛ والله ولي التوفيق.