من مذكراتي – السفر مع أليسيا

ذكرياتُ زمنٍ مضى تبقى غَضَّةً كأنها اليومَ يحفرها الزمنُ حتى لا مكانَ لجديدْ! وأينَ يكون في عالمِ الذكرياتِ جديدٌ في زمنِ الحربِ والجنون. ذكرياتٌ بعضُ من عاشها عبر إلى الحقيقةِ قبل الأوانِ ومن بقي رسم الزمانُ في وجناتهم بعضَ الخطوط. اكتبوا ذكرياتكم لأبنائكم لعلهم يذكرونكم فيها.

في مساءِ الرابعِ عشر من أغسطس 1983م في مدينة تولسا في ولايةِ أوكلاهوما عادَ أصدقائي من رحلةٍ لمدينةِ هيوستن عاصمة ولاية تكساس ومروا في طريقهم بمدينة جالفستون الساحلية واشتروا كميةً من الروبيان. عرض علي أصدقائي بعضًا منه فلم أشأ أن آخذ حيث إنهم بحاجةٍ إليه. قررت أن أذهبَ بنفسي في اليومِ التالي إلى نفسِ المكان وأشتري ما أريد وأعود مباشرةً. تبلغ المسافةُ بين المدينتين حوالي 880 كيلومترًا، وكانت الرحلةُ تستغرق عشرينَ ساعةً ذهابًا وإيابًا وشيئًا من الوقت لشراءِ الروبيان من البحارة.

أعلمت زوجتي بقراريَ المتعجل وأعددتُ الحاويات لوضع الروبيان بعد أن زودني أصدقائي إرشاداتِ الطريقِ والسكن والأسعار، ولم يكن وقتها أجهزة الملاحة متوفرةً؛ إذ كنا نستعمل الخرائطَ الورقيةَ للتعرف على الطريق ولم يكن الهاتفُ المنقول قد وُجد بل التوقف في محطةٍ للوقود واستخدام تليفون عملةٍ ثابت وبإمكانك حساب أجر المكالمةِ على الطرفِ الآخر إن وافق أن يتحمل تكلفتها.

تركت إبنتيَّ وزوجتي ولم آخذ معي أية ملابس إضافية أو ما يلزم للسفر إذ كان في قرارة نفسي أن أعودَ غانمًا بما اشتريت من الروبيانِ في أقلَّ من أربعٍ وعشرين ساعة ولا يهم إن كانت الرحلة شاقةً، أنا في أوائلِ العشريناتِ من العمر وأتحمل العناء. بدأتُ الرحلةَ في الصباح الباكر حتى وصلت النُزل الذي أوصاني أصدقائي بالمكوثِ عنده وكان يديره شخصٌ من أصل هندي، أعطيته بطاقتي الائتمانية وأعطاني مفتاحَ الحجرة. كان المكانُ مكونًا من دورٍ واحد حيث تُوقف سيارتك أمام الحجرة التي تسكنها. كان عددٌ من سائقي الشاحناتِ متجمعينَ حول التلفاز الموجود في بهو النزل ينظرونَ نشرةَ أحوالِ الطقس ويتكلمونَ عن السرعةِ والعين فلم أعر لذلك كثيرًا من الاهتمام، كل ما أحتاجه هو ساعة واحدة من الراحةِ ثم التوجه للصيادين وشراءَ الروبيان والعودة وما دخلي بالأحوالِ الجويةِ وتقلباتها؟

دلفتُ إلى الحجرة، أدرت التلفاز، استلقيتُ على السرير وكان المتحدثُ على التلفازِ ينبئ بعاصفةٍ قادمة. أخذ المطرُ ينهمرُ كالصخرِ وبغزارةٍ لم أعهدها من قبل. انتشر الظلامُ واشتدت الرياحُ وتسرب المطرُ داخلَ الحجرة وارتفعَ قليلًا قليلًا حتى قارب السرير. انقطعت الكهرباءُ وتوقف ماء الصنبورِ وسمعتُ صوتَ زجاجِ السيارة يتهشم في الخارج من شدةِ المطر والطيور ترتطم بالنزل والأشجار تتكسر. أخذ الخوفُ مني مأخذه ولم أخرج لأرى ما يحدث حتى صباحَ اليومِ التالي عندما هدأت العاصفة.

كان الزجاج الخلفي للسيارة قد تحطم وأجزاءَ كبيرة من النزلِ تطايرت والأشجار ملأت المكانَ وكأنها حربٌ جرت بين العاصفةِ والأشجار كانت الغلبة فيها للعاصفة. لم يكن مديرُ النزلِ متواجدًا ولم يكن عندي ملابس أو طعام أو حتى ماء ولم أستطع أن أصل إلى هاتفٍ لأخبر زوجتي بما حصل والتغيير في الخطة. أردتُ العودةَ لكن الطريق كان مغلقًا والطريق إلى المدينة الأقرب كان مغلقًا أيضًا، عندها أخذني رجلٌ وزوجته لمكانٍ قريب فيه هاتف واتصلت بزوجتي وأخبرتها.

مرت ثلاثة أيام قبل أن يفتح طريقُ العودة فذهبت على عجلٍ لدفعِ تكاليف النزلِ فلم أجد أحدًا فقلت إن أرادوا المبلغ فليأخذوهُ من حسابي على بطاقة الائتمان أما أنا فمرتحلٌ فورًا! عدتُ دون توقف ودون زجاجٍ خلفي حتى وصلت هيوستن وأبدلته بحوالي ثلاثمائة دولار.

وصلتُ تولسا مساء اليوم الثالث ولم أتمكن من شراء الروبيان مما حز في نفسي وأحرجني ولكن كان عذري المثل الشعبي “اللي ما يرضى بجزة… يرضى بجزة وخروف” أو قول الشاعر العربي:
ما كل ما يتمنى المرءُ يدركه *** تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ

تلك العاصفةُ كانت من أعتى العواصف التي ضربت مدينةَ هيوستن وجالفستون وسميت أليسيا. تسببت في أضرار بما يعادل 2.6 بليون دولار ومقتل ما لا يقل عن واحدٍ وعشرينَ شخصًا بطريقةٍ مباشرة وكانت سرعةُ الرياح 185 كيلومترًا في الساعة وبلغت كمية المطر حوالي المائتي ملليمتر.


error: المحتوي محمي