لحظة القبض على إحساسي

أبدأ صباحي بفنجان أحاسيسي في بن قهوتي، وأقول للقطيف الدافئة صباحك مكلل بزهر الرمان، عندما تنهدت بصمت مزقتني وأحرقتني بعض الإسقاطات لا تتصور كم!
كل ما في الأمر أنني أتنفس الوطن ولو تمكنت الليلة لسكبت فوق أرضه عطر أزهاري.
يقول جبران:
للعظيم قلبان قلب يتألم وقلب يتأمل
لقد سال حبر قلمي بعدة مقالات حول وطني الأم القطيف، يا عزيزي القارئ أي سعادة ترافقنا ونحن ننتمي للقطيف، لعلي أكون مختلفة عندما أقول: إني أجد كل شيء في القطيف يضحك حتى الحزن نفسه.. لا عجب فلقد أصبحت القطيف عاصمة فرحي وعمري وأنا ألمح شمس القطيف خلف إحساسي، عفوًا لا تسجل انطباعك عني من خلال ذلك.. عليك أن تقرأ داخلي لتجد حقيقتي واضحة لديك، وحينها ستفهم إحساسي دون رياء؛ حيث إن البعض يتخفون وراء أقنعة لا تعبر عن حقيقتهم ونحن في مجتمع نحاكي الظاهر المنمق ومن هنا يفقد الكثيرون صدق الإحساس ويكونون ضحايا لأنفسهم.

تحضرني هنا مقولة طاغور: ندنو من العظمة بقدر ما ندنو من التواضع، ولا أعتقد أن هناك مبررًا لمن تثيره هكذا أحاسيس، حيث الوطن؛ معشوق بني البشر الأبدي كخلود الرحمن.. فالوطن دائمًا يستحق كل شيء ولكننا نستحق وطنًا ذا أرض خصبة، وحتما بوجود مواطنين ذوي ولاء دون زيف، ولدينا الكثير أن نكتب عنه ولدينا أنفسنا كي نعبر عنه الكثير، وأتعجب ممن يتعجب من حب الآخرين للوطن أي مواطنة نحمل؟!

كان علي ذات فجر أن أرتشف قهوتي وبلا حليب حتى أستنشق هواء مكتبتي الهادئة وما تبقى من أفكار ومفردات فوق سطوري؛ في تلك اللحظة غبت عن حواسي واستسلمت لهدوء وذهول صامت؛ ماذا أقول وقد تملكني الصمت وثمة قهر أكاد أشعره بين ضلوعي؟ وماذا بعد! فالصمت يغزوني دون استئذان وهذا ما يحيرني؛ أيحدث أن هناك في الصمت كلامًا؟! لعله هذيان ما قبل الكتابة، حيث من السعادة أن تستيقظ ذات صباح لتجد نفسك نصا يُقرأ بين الناس، بل أبحث عن الكتابة التي أدخل فيها ولا أخرج من عيون القراء التي تغرقني بكحل قراءتها لي، وحينها أغيب في الجمال كما تغيب الشمس الجميلة في الشفق الجميل؛ ليأخذني لعالم بديع ذي معنى لا يشابه شيئًا ولا حتى المطر في الصيف.

لي عدة أيام متلاحقة أعيش قلقًا مفرطًا إزاء كتابة نص ما، وفي ليلة مليئة بالغبار كلما أمسكت قلمي لتدوين فكرة بارقة خطرت على بالي، في لحظة أرق وجدتني أرتشف كوبًا من القهوة، وكانت تلك القهوة تذكرني ببعض الجمال الاستثنائي، حينما أرسم على صفحة الذكريات لابد لي من كوب قهوة، وعندما أشتاق للحظة حب نقي أتطلع بكوب مثله ما زلت أتذكر يوم أهدتني إحدى الصديقات كتابًا وتحت توقيعها جملة بقيت راسخة في ذاكرتي: “يستحق الحب وحده أن يبقى ويُخلد” ولعل تلك الجملة قد غازلت إحساسي ومخيلتي بسعادة.. أعذروني يا أعزائي وأنا أعلن أن السعادة كما أسماها المنفلوطي: “ضمير نقي ونفس هادئة وقلب شريف” نعم ولنعيش لحظة السعادة لحظة بلحظة مع من نحب ونوزعها على الجميع.

آه لكم شعرت بدفء وصدق الكتابة فأعلنت القبض على إحساسي؛ ليشهد علي صدقي وخاصة ممن يثق بي، ذات يوم أخبرتني إحدى طالباتي أنها تمنت لو أنها حضرت دورتي الإنسانية قبل شهور؛ وعلى أثرها لم تتخذ ما أخذته من قرارات مصيرية شخصية ذات بُعد مؤلم، وهكذا أيضًا كتاباتي لا تقل صدقًا وإنسانية عن دوراتي؛ فالكتابة مثل الحب بالنسبة للمحبوب والعبادة للمؤمن والحرية لأي مواطن عادي، فلا عليك أيها القارئ المميز حيث إني أتعلم باستمرار من كتاباتي ومن تجاربي، ومن خلال نقد بعض القراء الجارح غير الحضاري لي، حيث إنني أفقد أقل بكثير مما أربحه ولقد ربحت خاصة نفسي.

هنا وبعيدًا عن رياضة كمال اللسان واستعراض العضلات اللفظية، لنتجاوز انتقاداتنا اللاذعة إزاء زلات الألفاظ؛ فالقارئ اعتبره صورتي وجزءًا من روحي، حيث إنني لدي قراء أكثر من أصدقاء حقيقيين، على أنني يجب أن أوضح أنني لا أكتب عبثًا ولا لمن لا يستوعب قلمي النزيه، وبذات الوقت لم أتصور مطلقًا أن تصل البعض أحاسيسي وكتاباتي، ومع ذلك يقرؤونني وأن الكتابة ليست محل استيعاب إنها محل إحساس وتأمل؛ وهنا أود أن تحظى كتاباتي بالقليل من التسامح والكثير من التفهم، وأتمنى أن تجد طريقًا إلى قلوب الناس قبل عقولهم بما أرسم من ملامح البوح المتاح لي، حيث لا أصنف نفسي ضمن أي اتجاه.

ثمة قهر ووجع في القلب؛ والسبب وجود ناس في منتهى الغموض وينبغي أن تتوارى عن أعينهم وتفاجئهم بغيابك المؤقت، وأحيانًا تفاجئهم بحضورك المتألق، وهذا أنا بحقيقتي، أو كما ألمح نفسي تمامًا.. ألست معي أيها القارئ العزيز أن هناك من تحبهم من أعماقك وهم يهدونك الكره والحسد والسموم؟!

منذ فترة قصيرة سمعت صديقتي تهمس في إذن إحداهن بأنها تتمنى لي الموت بسبب نجاحي الشخصي الذي سبقها بدهور، لكنني خيبت أمنيتها وبقيت حية حتى هذه اللحظة، وأقول لها: لن أموت مجازًا الآن ما دمت سُقيت بماء الطهر والنقاء ففي جعبتي الكثير، حيث تجدني أكتب لأعتق الدنيا والناس من الشر والأذى، نعم هذا هو مشروعي الإنساني للتخلص من الأحقاد والسموم، لنكون واقعيين هناك من يحقد عليك دائمًا فقط لأنك سبقته أو تفوقت عليه، وقد يتورم وينفجر من القهر، وما أجمل الإنسان أن يعيش على إرادة الاستمرار في العطاء رغم العواصف والأعاصير.

يا أعزائي أين الجمال الذي بداخلنا؟ دعونا نعيد تشكيل الإنسان الحقيقي ونعيد للعالم وجهه الحقيقي لنقول الحقيقة دون جراحة دون مساحيق، لا نريد أن نجعل الوطن أن يكون سجنًا كبيرًا بسلبياتنا وأحقادنا وسمومنا، وتذكروا لا مسالمة مع العقارب ولا يمكن أن نجني من الشوك العنب.. أما آن للنفس أن تهدأ كلحظة إحساسي وتترجل بعد أن قبض عليها! أعذروني.. لا أرغب أن تكون النهايات السعيدة للأشياء مفتعلة وإلا ستفقد المعنى والإحساس الجميل للذائقة الإنسانية، ولم يخطر على بالي غير أن أتعجب من تلك اللحظة التي قُبضت على إحساسي.

وبما أن المجال لا يتسع في هذا النص لم يعد لي ما أقول أكثر.. ولكن لنا عودة.


error: المحتوي محمي