انفض السامر عن العرس الكروي لمونديال روسيا 2018م بعد شهر كامل من الردح الكروي، ولكن لم تنفض الحسرات عن مشجعي المنتخبات وخصوصًا الفرق العريقة والتي لها صولات وجولات في حصد البطولات.
قبل انطلاقة المونديال كم كانت الآمال معقودة على أبرز النجوم، ليسعدوا محبيهم بإيصال فرقهم لمعانقة الكأس أو على أقل تقدير الوصول لدور الأربعة.. حلم داعب آمال الملايين وعشاق المستديرة لترى وتستمتع وتسعد بفنون اللعب ومهارات النجوم التي تلألأت بعض الشيء في الدور الأول ولم تقدم ما كان مرجوًا منها، أنظار المحبين توجهت لمعركة الدور الثاني بآمال عريضة لتفعل النجوم فعلتها ليضيؤا سماء المونديال بأهدافهم المنتظرة، دور ملتهب لا يحتمل القسمة على اثنين، لا مجال للتعويض ولا جمع نقطة على نقطة أو الدخول في حسبة بورما، أما فوز أو خروج من المنافسة نهائيًا.. فماذا حمل الدور الثاني من مفاجآت؟ لقد تمخض عن نكبة تلو الأخرى، وأول الخارجين هو المنتخب الأرجنتيني مع نجم نجومه (ميسي) الحاصل على الكرة الذهبية 5 مرات كأفضل لاعب على مستوى العالم، خيبة كبرى ارتسمت على جماهير الكرة في كل مكان بشيء لا يصدق بأن يخرج ميسي ورفاقه من الدور الثاني بعد أن كان هو الورقة الرابحة في التصفيات المؤهلة لمونديال روسيا، وكذلك أوصل منتخب بلاده للمباريات الختامية في ثلاث دورات سابقة – كأس العالم المنصرمة ومرتين أمريكا اللاتينية – خرج ميسي ورفاقه من الباب الواسع، وسط صدمة المعجبين بفنه، خسره المونديال وكذا الدعاية والإعلان وبللت دموعه شعار منتخب التانغو، إن ما يؤرق البرغوث متلازمة اسمها (عقدة المنتخب)، وما يؤرق راقصي التانغو بحث طال انتظاره لمنصات التتويج، بطولة غائبة لأكثر من ربع قرن!
وفي ذات اليوم الذي خرجت منه الأرجنتين عصرًا، أخبرنا الليل عن خروج حزين للمنتخب البرتغالي بطل كأس الأمم الأوروبية الأخيرة 2016؛ ذلك الكأس الذي رفعه كرستيانو في العاصمة الفرنسية وسط حسرة الديوك الذين فقدوا الصياح وسط دارهم، هاج وماج الشعب البرتغالي بأفراح مزلزلة بهذا النصر الأول في تاريخهم الكروي، فرح جنوني الذي كان وراءه ابنهم المدلل حيث أطلقت الحكومة البرتغالية على مطار عاصمتهم في لشبونه اسم (مطار كريستيانو) تيمنًا بما أحرز لهم من نصر، مر الوقت وذهبوا بعيدًا بأحلامهم وبآمال معقودة على أقدام رونالدو ثانية بإحراز هذه المرة كأس العالم في روسيا، ولكن في الليلة الظلماء ينطفئ النجم ويهوي من عليائه، وقعت المفاجأة بالخروج المبكر بخفي حنين من الدور الثاني بلا أثر يذكر، فلم يكن (الهاتريك) في مرمى إسبانيا كافيًا لبلوغ المراد، سقط النجم أمام الأوروغواي العنيد وخبأ الضوء، فلم تكن الفشخرة و(فشحة الأرجل ونفخة الوجه المتزير) عند تسجيل الأهداف، ولا إحراز الكرات الخمس الذهبية في بطولات الأندية الأوروبية مخولًا لمعانقة أغلى الكؤوس العالمية.
وأسفر دور الثمانية عن خروج سواريز المهاجم العضاض المتألق في صفوف برشلونة، فلم يكن بمقدوره دون وجود كافاني أن يفعل شيئًا لمنتخب بلاده، خرج النجم عاضًا قدمه اليمنى حسرة إثر حسرة.
بقي الأمل الوحيد لمحبي (السليساو) والنجم (نيمار) أن يفعل شيئًا ليقود منتخب بلاده للمباراة النهائية بعد أن أجمع الكثير من النقاد على مستوى العالم والمحللين الرياضيين في أصقاع المعمورة على أن الكأس برازيلية لا محالة؛ لاعتبارات فنية وكذا المراهنات صبت في ذات المنحى، لكن كل تلك الترشيحات المبكرة ذهبت أدراج الرياح، فقد أخرجهم البلجيك دون كارثية (الجرمن)، احترقت طموحات وتبخرت أحلام، لم يفعلوا شيئًا يذكر، بقي التهكم على دحرجة نيمار المبالغة فيها على المستطيل الأخضر مادة خصبة للطرافة والفكاهة، والأكثر إيلامًا أن تستقبل بعثة منتخب البرازيل بالحجارة فلم يشفع لهم رصيد خمس كؤوس في خزينتهم وتسيدهم خريطة العالم، ووصفهم بأنهم سحرة الكرة، أن يقلبوا موازين النتيجة حسبما شاءوا ووقتما أرادوا، ذهب سحرهم وبالًا عليهم بخسران أربعة مونديلات متتالية.
والخيبة المريرة والمفاجأة العسيرة اللتان أصابتا في مقتل جماهير ولاعبي المنتخب الألماني بعد الخروج المذل من الدور الأول، بطل يخرج من الدور الأول، شيء لا يصدق فلم يكن متوقعًا ذلك ولا أكثر المتشائمين، فمن بداية المشوار الماكينة الألمانية تتعطل في أول لقاء، يلي ذلك فوز صعب على الدانمارك وهزيمة من كوريا الجنوبية وخروج من الدور الأول، أقصي المنتخب الألماني بطل كأس العالم 4 مرات آخرها المونديال السابق 2014 وحامل كأس القارات والمتوج به قبل سنة من انطلاقة مونديال روسيا، وهو المنتخب المدجج بالنجوم والمتسيد للوصول للمبارايات النهائية في الكثير من المونديالات.
وليس ببعيد عن المفأجاة الماحقة التي أصابت نجوم الماتدور بخروجهم من الدور الثاني وسط حالة من الذهول، فلم تسعفهم ترسانة اللاعبين ومهارتهم لأقوى دوري في العالم ولم يسعفهم أيضًا الوقت بأن يأتوا بمثل ما فعلوه في كأس العالم 2010 وقبله وبعده كأسان للأمم الأوربية (2012-2008) كان ذلك عزفهم المنفرد والمتفرد الذي لم يجاريهم فيه أحد، تبخرت أحلامهم سريعًا في مونديالين متتاليين، وكأنهم لم يكونوا شيئًا، فقط مجرد ذكرى لعز مضى.
كم رسم مونديال روسيا الخيبات تلو الخيبات على وجوه جماهير الفرق الكبيرة الذي لم يمر لحد الآن مثله بهكذا خروج، خروج من الباب الضيق، ففيه ضاقت الدنيا بما رحبت على المنتخبات العريقة.
وبالمقابل فتح الباب على مصراعيه لمنتخب من دول البلقان، لم يكن في الحسبان وهو منتخب كرواتيا، دولة من بقايا تركة جمهورية يوغوسلافيا؛ التي كانت أمة موحدة سياسيًا في ظل الحرب الباردة، تفككت أثر انهيار الاتحاد السوفيتي وبعد أن عزف الغرب، وبثت فيهم صراع القومية المتطرفة، ومن ورائهم صندوق النقد الدولي بابتزازات رأسماليتة المتوحشة، كل فعل فعلته على تقطيع أوصال يوغوسلافيا وصولًا لحروب مدمرة أوائل التسعينيات، كانت أرضهم متماسكة عهد (تيتو) الذي يترحمون على زمنه، أسفر الدم عن تشظيهم إلى 7 دويلات متصارعة حدوديًا ومتحاربين عرقيًا، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، مر ربع قرن ولم تزل النفوس مريضة، وروح التشفي تعم بعضهم البعض، وعم حزن شعوب أرض البلقان بعد أن بلغت كرواتيا المباراة النهائية سرعان ما انقلب حزنهم البارحة إلى أفراح عارمة بعد تفوق الديوك كأنهم ينتمون لشعب فرنسا؟!
ما قدمه الكروات شيء لم يتوقعه أحد ولا حتى أكثر المتفائلين، حيث لا رصيد في جعبتهم يذكر، وهم الدولة المستحدثة في كل شيء، فجأة يكونون محط أنظار العالم ولمدرب مغمور يدرب نادي الفيصلي السعودية ولم يسمع به أحد!
تتناقل وسائل الإعلام مقابلاته وتصريحاته، إنه الحظ إذا جاء وهب لمن لا يعرف حقيقة ذاته أن يكون يوما ذا شأن .
كم تمنى الكثيرون أن يحرز منتخب كرواتيا كأس العالم، لاعتبارات عديدة من ضمنها، بحث عن بطل جديد، بدلًا من الاحتكار الأوروبي المتتالي وتحديدًا لأوروبا الغربية (ألمانيا، وإيطاليا، وإنجلترا، وفرنسا، وإسبانيا) أو اللاتيني المتمثل في (البرازيل، والأوروغواي، والأرجنتين).
وأهم من ذلك فإن لاعبي كرواتيا من أبناء البلد وليسوا من المرتزقة المجنسين على عجل وبطرق ملتوية!
وأيضًا فإن حجم وإمكانية بلدهم متواضعة مقابل حجم فرنسا على جميع المستويات، وعلى رغم من ذلك ما حققوه يعتبر إنجازًا عظيمًا بكل المقاييس الوطنية، إنجاز يعيد حسابات النقاد الرياضيين وكذلك يجدد طموحات منتخبات تكملة الجدول في العرس الكروي من قارتي إفريقيا وآسيا.
وأخيرًا أتى الحلم الفرنسي لمعانقة الكأس ثانية بعد أن حققوه لأول مرة عام 1998 على أرضهم، بمساعدة زين الدين زيدان بأهدافه الحاسمة على منتخب البرازيل، وكاد أن يجلبه لهم عام 2006 لولا نطحته الشهيرة وخروجه بالكارت الأحمر، فضاع الحلم وذهب الكأس لإيطاليا بالترجيح، ومن المرجح على أرض الواقع أن تفوز فرنسا بمونديال روسيا بمجرد انطلاقتها وإقصائها للكبار واحدًا تلو الآخر، لأنها استفادت من أخطائها السابقة (كأس الأمم الإفريقية) الفائتة وكأس القارات، حيث غربلت لاعبين واستبعدت آخرين، وإعادة وتأهيل من جدد، وحسن توظيف العناصر كل في مركزه الصحيح وتكتيك في الهجمات المرتدة وتوازن في الهجوم والدفاع، مشوار فرنسا كان صعبًا عكس الكروات فكان سهلًا، حيث ابتسمت لهم الكرة بحظ يفلق الصخر ولكن أخشى على الكروات بأن يكونوا مثل (فورة حماسية) سرعان ما تتلاشى ويطويها النسيان كحال منتخبات تركيا وكوريا في مونديال 2002، أو الدانمارك واليونان في اليورو 1992 و2005، لأن المحافظة على المستوى صعب في ظل حجم بلد مثل كرواتيا.
وأخيرًا وأخيرًا صاح الديك الفرنسي بلحنه الفرنكفوني صاح ووقف مزهوًا بريشه الملون في ختام مونديال روسيا 2018 وقفز فوق الجميع بفوز مستحق وخطف الكأس بأرجل إفريقية؟!
دموع سماء.. ودموع أسى.. ودموع فرح.. باركت الخلطة الملونة التي جلبت النصر.