أيها الرائع كمالًا، والبهي جمالًا، أيها “المعلم” المستذكر لمعاني الولاء، والروح الوطنية، يا أيها المقدر لمكانة الفرد في بلادنا، بزغ فجر جديد بما كنت تحلم ونحلم به جميعًا، مع إطلالة عامنا هذا 2018 أتانا الفجر المنتظر، أتانا بازغًا بإشراقاته الباسمة الحالمة، مشعًا بأنواره الفنية الفتية، بشائر كبرى من لدن القيادة العليا، بنهضة شاملة للفنون كافة (سينما، مسرح، أفلام، موسيقى)، وبحراك أشمل ودعم أكبر للفن التشكيلي بمختلف مجالاته المتنوعة، مشاريع ضخمة، فعاليات متعددة، ومهرجانات فنية قادمة.
وأول الغيث “سمبوزيوم نقوش الشرقية”، وتبعه “سمبوزيوم المدينة المنورة”، وهما حدثان لأول مرة تشهدهما المملكة منذ تأسيسها، إنها فرحة مجتمعية تعانق السحاب.
ويا ابن “المعلم” أنت السباق لتلقف هطول المزن، مددت أناملك في أرضنا البكر توقا لهذا البزوغ، احتضان لنور الفجر، طبطبت أكفك الرخام الأبيض، ولأول مرة تتحسس سطحه، بإحماءات ما قبل المباشرة، سواعدك عاجلت الكتلة دورانًا كطواف محموم، أناملك تنقش التكوين غبطة من حبور، محياك يفصح عما كان في صدرك المكنون، تطلعات وآهات وآمال كانت مخبأة طوال سنين.
رأيناك عن قرب تنحت الحجر الأصم ويتطاير الغبار مسوحًا على وجهك، تستنشق الذرات وجسمك منها يتحمم، قطع تتناثر وأبخرة تلتهم حيز الهواء، سحابة تحجب ملامحك، نكاد نتبينك، نلمحك من بين الأغبرة، مقاتل في حومة ميدان الفن، فارس تتسيد المبارزة، إزميلك سلاح حرب يوقع طرقًا متواصلًا صعودًا ونزولًا، ويتداخل صوته مع الطرق الآخر، طرقات تهز الأرض من تحت أرجل النحاتين، كأنها طبول حرب اشتد أوارها، من مفزعها تصم الآذان، مناشير تأكل لحم الرخام، أنامل تصوب التكوين بقوة بأس، نذر أمل ومساحة وجد وفن يتنفس، إيذانًا لانتصار الحالمين، المبتهجين بواقع لا يصدق، يتعدد إيقاع الحفر والطرق والنقش على الأسطح بمستقبل زاهٍ، أكف تزيح غبار الماضي، وتتبين مجسماتها بطيوف الفرح لما هو آتٍ، طرقات تتوالى وتعلو فضاء “السمبوزيوم” مع نخبة من فناني النحت (سعوديون وإخوة من بلاد العرب أوطاني)، كتل تكللت نجاحًا وتكلمت شموخًا، متجاورات كالأعلام في ساحة الفن بمدينة الخبر والمدينة المنورة، وأكملت يا “كمال” مجسمك الذي أطلقت عليه “سخا” في نقوش الشرقية (الخبر-من 25-10فبراير/ 2018)، وأخبرتني بتكوينه بمضمونه: “مجسم “سخا” هو أول مجسم أنفذه بالحجر في حياتي الفنية، منطلقًا برغبتي الملحة المتجددة منذ زمن للتنويع بين كل الخامات، والتعرف على أدوات النحت الخاصة بتنفيذ الحجر، ولقد كانت التجربة جدًا شاقة وشيقة.
ركزت في منحوتتي على إبراز جماليات الزخرفة الجبسية التي كانت تزين منازلنا الطينية القديمة، وأضفت هذه الوحدة الزخرفية الرائعة تقديرًا لفناني هذه الأرض القدامى الذين يملكون الحس والرقي الفني الشيء الكثير، وأيضًا اعتزازًا بكل الآباء والأجداد المولعين والمطالبين بوضعها على جدران منازلهم كتحفة فنية مشغولة بأيدي مهرة بلادنا المجهولين، إنهم بالفعل عباقرة، من جانبي استلهمت ومازلت أستلهم نماذج من رقيهم الفني.
وواحسرتاه بين جيل الأمس وجيل اليوم! أيهم أكثر حسًّا وتذوقًا، لست أدري؟! أين البناؤون الذي شيدوا الديار؟ لقد فتحت عيني على زخمهم المعماري، وتيمنًا بهذا الموروث الزخرفي الجمالي العالي وظّفته في الكثير من أعمالي الفنية (لوحات ومنحوتات) منذ أكثر من 30 عامًا.
وفي مجسم “سخا” الحجري جعلت هذه الزخرفة الشعبية تتصدر قلب المجسم، تجاورها فتحة جانبية تحتضن الحجر من الأمام بسطح متباين بين الأملس والخشن، وفي الخلف تستقر الزخرفة على السطح الأملس، مدعم بخطوط خارجية، منطلقًا من القيم النحتية المتعارف عليها، التوازن بين الكتلة والفراغ، والمساحة التقديرية بين الاستقامة والانحناء، هي لعبة حسابات دقيقة خاضعة لرؤية وتقدير كل نحات، مقاسات المجسم 250x100x50 سم، والعنوان مشتق من هذه الوحدة التي تحمل رائحة الأسلاف”.
نحسبك يا كمال يقينًا امتدادًا لهم، ومنحوتتك جزء من إنجازاتك المتوالية، مجسم “سخا” سخاء من إبداعاتك متفرد بين الأعمال نال استحسان جمعية الثقافة والفنون بالدمام، الجهة المشرفة على هذه الفعالية، وأثنى عليه المتبني لهذه المبادرة مجلس المنطقة الشرقية للمسؤولية الاجتماعية وبلدية الخبر، وحاز إعجاب الجميع صغارًا وكبارًا، وخصوصًا صاحبة اليد البيضاء التي أطلقت حملة “نقوش” سمو الأميرة عبير بنت فيصل، حرم أمير المنطقة الشرقية، والتي ترعى مبادرة “نقوش” وتسعى من وراء ذلك إلى أن تتجمل الشرقية بمشاريع فنية متواصلة على مدار الأعوام القادمة، وكاتب السطور تقابل مع هذه الإنسانة الحالمة وجهًا لوجه برفقة بعض من فناني وفنانات المنطقة قبل شهر ونيف، لمسنا عن كثب من سموها مدى الحماس المطرد والخيال الفني الواسع الذي تريده واقعًا ملموسًا في ربوع المنطقة لتطوير الجانب الروحي والجمالي والتذوق الفني وتأصيله في نفوس المواطنين، وبثقة مطلقة في قدرة الفنان السعودي.
إن مبادرة “نقوش” الخاصة بالمنطقة الشرقية أوسع وأشمل من عروض صيف “أرامكو” قبل ٨ سنوات، حيث اقتصر على معرض للفنانين السعوديين، بين تشكيل وخط عربي، وورش عمل بسيطة، وبعض الندوات، وفعالية جانبية للنحت الحي، كل ذلك ضمن خيمة جامعة لجميع الفعاليات لمدة زمنية محددة، ومع الأسف ٣ دورات صيفية ثم توقف كل شيء، أما مبادرة “نقوش” فهي توجه مفتوح لكل العيون ومخاطبة لكل النفوس عبر الشوارع والميادين والمتنزهات والأماكن المفتوحة، ضمن رؤية متكاملة ومتواصلة على مدار العام، بامتداد خارطة المنطقة الشرقية، خطة طموحة مجدولة لسنوات مقبلة، “نقوش” فاح أريجها ووصلت غربًا لمدينة الرسول (ص)، ورسل الفن ألقت التحايا تلبية لنداء السواعد، وقبل أن يلتقط النحاتون أنفاسهم ، كنت يا بن “المعلم” أول المشمرين لـ”سمبوزيوم المدينة المنورة”، ركب سار للملتقى الثاني في غضون أيام، فعالية لم ترد في حسبان المتفائلين، دارت حولها علامات الاشتباه؟!
وأنى يكن أي نحت سيخول العازمين للإتيان به في رحاب المدينة المقدسة، أمر يدعو للتبيان، ظن البعض في خضم الملتقى أن الفنانين سينحتون “أصنامًا، ذوات أرواح”، هكذا خيل للدهماء من الناس، لا يا سادة النحت كما الرسم، أبعد من ذلك، لا حدود لآفاقه التكوينية والتعبيرية والرمزية والاستعارية.
لقد انخرط ١٦ فنانًا (سعوديًا وعربيًا) ينحتون الرخام الأصم، من تاريخ ٢٢ رجب إلى ١٠ شعبان ١٤٣٨هـ، في ساحة “جادة قباء” ضمن برنامج تطوير المدينة المنورة الثقافي، برعاية كريمة ومباركة من أميرها “الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز” ومتابعة ميدانية من سموه، وباهتمامات إعلامية محلية وخارجية.
طرق صاخب يصم الآذان ويسر الأنظار مع متابعة جمهور مندهش، إعجابًا والتباسًا بأسئلة لم تنقطع، إلا بعد أن انجلت الغبرة وبانت التكوينات الجمالية عن تفاصيلها المجردة، منحوتات تحاكي البيئة والتراث الخاص بقدسية وروحانية المدينة، ستوزع على الحدائق والشوارع الرئيسية والميادين العامة للمدينة، بهدف تعزيز الجانب الفني ورفع الذائقة الفنية، منحوتات سمتها البنيوية توظيف الكتلة والفراغ، وتوازنات الشكل من جميع الأبعاد، مستوحاة من رمزية المكان، تلك هي أغلب الأعمال، فاقهم مجسم واحد متوازن بين المبنى والمعنى وجمالية التكوين، إنه مجسم حمل عنوان “الهجرة” للمبدع كمال المعلم، وعنه يطيب الكلام من لدن الفنان.