إشراقات ليلة القدر: “اللهم ارزقني فيه فضل ليلة القدر”
هذه النفحة الربانية يهبها الباري لعباده الذين تاقت نفوسهم لرحمة الله ومغفرته، ينفتح فيها العبد على صفاء ونقاء الوجدان والفكر من أغلال الشهوات وأسرها والتخلص من إصر وذل النزوات.
يقف المرء في تلك الأدعية على حقيقة عظمة الباري، متأملًا في آياته المبثوثة في الكون وفي نفسه، مما يحرك جوارحه نحو مقابلة تلك النعم بالشكر وأداء حقها، فهذا اليقين الذي يورثه ثقة وطمأنينة بمجريات الأمور وأحواله وفق التدبير الإلهي، بلا شك يجعله يسير ما بين مطبات الحياة بكل عزم وقوة.
من النعم الإلهية على المؤمنين أن أتاح لهم من المواسم الزمانية مضمار تدريب وتهذيب لأخلاقياتهم وسلوكياتهم، ويوقف عقولهم في لحظات.
تأمل على تبصرة الحقائق والمفاهيم بعيدًا عن صخب الحياة والانشغالات التي يمكنها أن تأخذ من المرء وقته وجهده، ومنها الشهر الكريم الذي يزخر بكنوز الحكمة والسمو الروحي والتألق في العلاقات، فرصة ثمينة لصياغة الشخصية الإيمانية ورفدها بعناصر القوة والثبات في معترك المواجهة مع تسويلات أهواء النفس والشيطان ينبغي اغتنامها.
وهذه الفوائد والمكاسب التي يتحصل عليها المؤمن من ليلة القدر، يتطلب منه استعدادًا وتهيئة نفسية وروحية بمستوى كبير وبأهمية أفضل ليالي السنة على الإطلاق، هذا التأهب ينطلق من مراجعة شاملة وتأمل دقيق لأحواله وسلوكياته، فيستغفر الله تعالى ويتوب من كل ذنب وعيب ارتكبه ويعزم على تركه، ويفرغ من قلبه كل إحساس سلبي تجاه الآخرين، فالكراهية وسواد القلب مانع من التوجه وتيقظ الوجدان، فليتحل بالتسامح والتجاوز عن إساءة الغير، فهذا أفضل سبيل لطلب المغفرة والعفو من رب العالمين، فتجاوز عنا يا رب فقد عفونا عمن أساء لنا كما أمرتنا، فأنت أهل العفو والصفح.
وحضور القلب عند قراءة الأدعية والمناجاة والتدبر في المعاني والقيم والصور التي تدعو إليها يهيئ النفس لاستقبال عطايا هذه الليلة العظيمة، فيتحفز للتحلي بتلك الفضائل وتجسيدها واقعيًا، والعزم على التخلي عن كل رذيلة وقبيح يلوث نفسه، فإن الظلم وارتكاب الموبقات تشكل حاجزًا عن التوفيق لنيل الجوائز السنية، كما أنه بهذا الإصرار على طريق المعصية يعرض نفسه أكثر للنقمة والسخط الإلهي.
ومن عوامل التحفيز لاغتنام هذه الفرصة الثمينة على المرء الاطلاع على الروايات الشريفة التي تتحدث عن فضل وعظمة ليلة القدر، وما لمن أحياها مخلصًا من الثواب العظيم الذي يتوج بعتق رقبته من نار جهنم.
ولا ينبغي تفويت هذه الفرصة في مناجاة الرب وطلب الحوائج منه، فمن صمد إليه بحاجته وسؤله استجاب له، فاستشعار الطمأنينة والأنس دون ملل عند مخاطبة المولى بأدعية المعصومين (ع)، هو من التوفيقات العظيمة التي يحصل عليها الداعي، وليبد العبد اعتذاره وندمه على ما اقترفت جوارحه من سيئات سودت صحيفة أعماله وأبعدته عن ربه.
وليستحضر تلك الصور التي تشير إلى حال الإنسان بعد رحيله وفي موقفه للحساب بين يدي المولى، فإنها أفضل وسيلة لبكائه على نفسه فتنزجر نفسه عن الاستجابة للشهوات والأهواء.