من وحي دعاء اليوم السادس والعشرين من شهر رمضان: التغيير الإيجابي

“.. وذنبي فيه مغفورًا”
النفوس المعذبة من التعلق بزخارف الدنيا وحب زينتها، أتعبها اللهث خلف الشهوات وأضناها تمزيق نسيج القيم والمبادئ، فتسافلت النفوس باتجاه الحياة البهيمية وتملكتها الأنانية وتبلد الأحاسيس والوجدان تجاه آلام الآخرين، ولم يعد في قائمة اهتمامها إلا تحصيل النزوات ومراكمة المال!!

إن هذا الشعور بالإساءة للنفس بارتكاب الذنب والناجم عن قيامه بعمل لا يوافق المنظومة الأخلاقية والفكرية عنده، يجعل الفرد تصدر من نفسه مثيرات تمنعه عن ارتكاب السيئة والتورط في الانزلاق بوحل الموبقات مستقبلًا، وقد استضاء بنور اليقظة.

والمناجاة طلب لستر العورة المعنوية بعد أسقطت عنها أوراق الحياء والعفة والتقوى تلك الذنوب التي قارفناها، وفعلنا بارتكابها أكبر جرم في حق أنفسنا، وطلب العفو والرحمة الإلهية في مناجاته يعني اعترافًا بالتقصير وارتكاب الإساءة، وانفتاحًا على أفق الطهارة القلبية والسلوكية، بعد أن تلوثت بالمعاصي السالبة للمناعة من التمادي والجرأة الوقحة، وتمنعه من الوصول لطريق الريان القلبي.

والمناجاة زينة الإنسان يجمل بها ساعات عمره، فلا يخرج من هذه الدنيا إلا وساعات نهاره تشهد له بالخوف من الله تعالى في أهله والناس بمراعاة حقوقهم، وظلام الليل يثبت له ذلك الموقف الرائع الذي تألقت فيه روحه في رحاب فضاء القداسة والجمال الإلهي، فلذة المناجاة والأنس بذكره تعالى أعظم الهبات الربانية لعباده المخلصين.

من الناحية التفكيرية، فإن الشهوات والأهواء تحجب العقل عن التفكير في عواقب الأمور، فيسير لاهثًا خلف المعاصي دون أن يكون عنده كابح يوقفه عن الانزلاق في وحل الآثام، فكما أن المجنون لا يعول على تصرفاته ولا يحاسب عليها، فكذلك مدمن المعاصي والعاكف عليها يغيب عقله ويفقد بوصلة تشخيص الأمور، فمهما كانت الموعظة التي يسمعها بليغة ومؤثرة فإنها لا تجدي نفعًا معه، لأنه لا يسمع حينها إلا صوت وسوسة الشيطان الرجيم.

كما أن الإحساس اليقظ الذي يؤنب الإنسان على ارتكابه للمعاصي يغيب ويتلاشى، فالإنسان الفطن إن ارتكب ذنبًا يوقع في الندامة وعاقبة السوء، بدأ في حركة الاستدارة نحو الرجوع إلى الله تعالى، فيرتكب الإنسان الضعيف في إيمانه وتقواه الذنوب التي تخزيه وتجرده من الأفضلية والاستقامة، ويتعرض لهجمات وإغراء النزوات وتزيين الشيطان الرجيم فلا يجد من الورع والخشية من الله تعالى ما يحجزه عن ارتكاب الموبقات، فهل يمكن للعناية واللطف الإلهي أن يترك عباده الضعفاء دون أن يهبهم ما يعيدهم لحجزة الإيمان، فتهطل منه دموع الحزن والندم من أماقيهم ما يغير واقعهم السيئ والمزري وقد عصوا الرحمن، وينبت على أبدانهم لباس التقوى والطهارة النفسية والتخلص من تبعات الذنوب، ويمحو آثار الجرأة والغواية واستصغار الذنب؟!!

الطربق إلى تطهير النفس من أدران المعصية يبدأ من خطوة الوقوف مع النفس والتأمل في أحوالها، والتمعن في ما ستنطق به من كلام أمام عرض كتاب الأعمال من اعتذار يوم تخرس فيه الألسن، فيحاسب نفسه على ما قدم من سيئات وينفتح على طريق التخلص منها، فيقر ويعترف بما جنته يداه وما قارفته من خطايا، ويخط طريقًا من الندم الإيجابي.

لقد انطلق هذا الإنسان التائب من مرحلة الاستهتار وعدم تقدير العواقب، فلم يكن ينظر إلا ما بين قدميه فقط دون تبصر ما هو أمامه، وها هو يصل إلى مرحلة تحمل المسؤولية وإدراك حجم الخسائر التي مني بها بسبب جهالته وغفلته حتى عاد من زمرة الخائبين المسخوط عليهم، أينه من هذه الحقيقة الغائبة عنه طوال هذه المدة؟

يعود الاستغفار على نفس العاصي بهدوء وسكينة بعد أن عايش ألم الذنب وإحساس التقصير والضعف أمام غلبة شهواته، فلا يهدأ باله ويرتاح قلبه إلا بعد الشعور بالقوة والمناعة أمام إغراء السيئات.


error: المحتوي محمي