حين تعترف نفسي حبًا في الله

مهداة إلى كل نفس تلوم ذاتها المذنبة!
أرخى الليل جفونه في مدينة الرحاب المصرية الساحرة وأطبق السكون عليها، كل شيء يبدو نائمًا ولم تستطيع الأنوار الخافتة المتناثرة هنا وهناك أن تبدد الظلام، واستعاد الليل ملامحه المميزة وطابعه الخاص، وبدت الرحاب كما أراد لها الليل أن تكون، ونطقت دموعي تجمع ما حولها من خطايا وذنوب، وتتوسل الله أن يسامحها وأنا هنا أناجي هذا الليل، حيث أبحث في الليل عن صوت قديم دون بحة ويحمل عبق الطفولة ويحمل ارتخاء الأيام البسيطة، وعلى ضفاف نص اعترافي أمام رب السماء يعيش ضميري بوخزاته وقلبي بصدقه، يا إلهي كيف يصبح البوح عذابًا عندما يتساقط من الفؤاد وكم يقتات الندم على نفوسنا.

عفوًا، أحاول أن أهيمن على فكري لولا كل الخوف من القمع، رغم أنه يوحي لي أن بعض القراء سيقتنص طريقة تفكيري منهجي في الانتقاء، في الرحاب ماذا يعني لي الزمن؟ ولكني أصافح الشمس من مغربها وعازمة على مصادقة الشمس رغم غبار الزمن ورداءة البعض، عفوًا لم تخذلني الشمس يومًا فهي تخترق مدينتي القطيف كعاشق أبدي، وهنا في الرحاب الوقت يجري دون أن أدري وألمح وجه القمر ولون السحب التائهة على صفحة الليل والنيل، أخشى أن أستيقظ على لحظة أفتقد فيها نبض قلبي قبل قلمي وسيبقى حينها فقط كوب قهوتي وماذا بعد؟

لقد توحدت مع الليل لأكتب بعيدًا عن القطيف، فالورد والليل لهما ضفاف أبدية، وهل هناك من يسقي الورد؟ وإن ذبل الورد فهو يستطيع النهوض برحيقه ومعانقته خيوط الشمس، حيث في رحلة كتابتي هذه تمتد عيوني إلى السماء وتختلط بالدعاء، والطيور تخاطبني في همس وتقول تعالي نذرف الدموع سوية، لكن شفتاي تبتسم وتشدو مع تغريد البلابل ومع هديل الحمام أنشودة الشروق.

أعتقد أحيانًا أن محاولة لوصف غروب الشمس الرائع لشخص كفيف لا يبصر ستكون أسهل من صنع هذه المقدمة، بسبب أن البعض منا يفقد الأمل في العثور على حب الله، فالله عز وجل وحده له الكمال الإلهي ونحن نتوق لمحبته، يا إلهي إن صوت قلمي يمزق رداء الغفلة، أين نحن من حب الله سبحانه وتعالى! هل من المعقول أن نحب من حولنا وننسى حب الله، وكيف تتعلق نفوسنا بغير الله، ومن يتصور معي أن الحبيب الغالي هو الله، ومن يتصور لذة ومتعة مناجاته في الصلاة ونحن خاضعين متذللين بين يدي خالق الكون، بل وعندما تذوب المسامات والمسافات ونشعر بأننا في ملكوت الله، يا ترى هل نستمر بالغفلة؟ ونعيش على هامش وحافة الحياة أم نرجع إلى الله؟ يا له من يوم جميل سأعيشه ما دمت قد افتتحت فجري بحب الله.

لعلك تلمس المشاكسة في نصي وبعض الوجع الخفي وتلك الآلام تستدعي احتفاء ألم خاص، وماذا بعد؟ متى وماذا أكتب عن اعترافي الذي داهمني؟ وسأكتب بدمعي وألمي وبنية بريئة طرقت باب ربي، وبالنية نفسها أظنه سيفتح لي، ما أصنعه بهذه المفردات كما يصنعه المتخم بوجبة عشاء فاخرة دسمة، وكأنها لعنة آمون تفسد ذات الحنطة التي أفاض بها يوزر سيف من لطف الله فأشبعت العباد والبلاد، وعلى الركن الآخر تقف مفرداتي خجولة من أصابع الزمن! ما دمت متعلقة برباط إنسانيتي أنشد للحب للخير للصدق، وستبقى الكتابة سحر الحياة، وهكذا أوقفت سفينة الكلام واللفظ عند ساحل أخلاقي وقيمي التي أؤمن بها وأحافظ عليها، حيث الهموم والشجن هما أصل ضحكنا وبكائنا وحبنا الرباني العميق نحن البشر، وكان علينا فعلًا، أي نعم كان علينا، لكن؟ أين نحن مما كان وسيكون؟

بعد عذابات وجهد شاق مع التدريس لوقت طويل، تاقت نفسي إلى جلسة خاصة صادقة، لأغسل عناء الزمن ألقي بهموم القلب على أعتابه، مرت برهة وحديثي صمت طويل مع نفسي بأي وجه سأطلب المغفرة من ربي، يا لسعادتي وأنا صاعدة إلى ربي راغبة الرجوع إليه والتوجه له، لفترة وأنا أجتر السؤال وأخيرًا أدركت أن السر يكمن في التوجه إلى الله بقلوب الأنبياء، أي خشوع يتجدد في سجود الملائكة وحب الله، نعم أنا أتحدث عن اليوم الذي أقف فيه أمام الله، فسأجد أن لا حدود لعدم وجود حب الله، وإلا سيأتي فجر لا يبدأ الديك بصياحه وقد نسى الأذان عند الصباح وهذه مصيبة كبرى.

عندما يدق القدر والزمن بابي أشعر أحيانًا بالضياع، حيث يعلمني الضياع الحب الكبير وهو حب الله، وحينها أشعر بالسعادة لشعوري بالندم والخجل أمام ربي، فرفقًا بنا يا قدر، وتلك الأقدار لا مفر منها وعلى قدر النوايا الطيبة يرزق المرء، حيث أسدل العمر ستائره فما عدت أبتسم لشجرة الريحان كعادتي، أحاول أن احتضن نفسي بالخشوع وأكثر من الاستغفار، لأتجاوز طرق الخطأ والخطيئة لأبقى إذا شاء ربي في درب النقاء وأغادر دنيا الشقاء، حان الوقت لإدراك أن كل رسالات السماء مفتوحة، فلن نعيش في ظلام وغفلة وعتمة ولنستيقظ! ليس لدي ما أحمي به آخرتي سوى الرجوع إلى الله، وليس لدي ما أؤمن به سوى قلبي وضميري وصدقي، يا رب عفوك تقبل مني ألف اعتذار واعتذار، كيف الوصول إليك وأنا على حذر الانزلاق ويداهمني الوقت وينثر في دروبي بعض الذنوب، وإن كانت تلك الذنوب لا تُذكر لتفاهتها أمام جرم العالم، بأي وجه أطلب منك المغفرة؟

ليتك يا عزيزي القارئ تشعر بي وما بداخلي، ها أنا أعترف اليوم وأختزل في نفسي تسبيح الندم، وفي هذه الساعة المتأخرة من الليل كنت أنا استثنائية الحضور، دون ضوء دون شمس دون زيف دون خوف دون أحد، وكم أخاف على نفسي وبحياء من الله وهل ما زلت مفضوحة القلب؟ يا إلهي إنه ليل حالك الظلمة يطبق على صدري أو هكذا بدا لي! السؤال مستفز لكني عاجزة عن التركيز وسط هذا الصخب، أحاول ألا أرتجف لكن رجفة غامضة بدأت تنبض داخل صدري، أعذروني يا أعزائي أنا هنا أبحث في سراديب وأغوص في محطات الذات لأستنطق الصمت، وأبوح بمكنونات أخفاها القدر لتدفعني نحو التغيير إن لزم التغيير.

يا ترى من يخلصنا من عذاب الضمير والضياع والندم والغفلة، والليلة سأحاول أن أهبط من أعلى قمة الخطأ لأرتفع إلى الله في السماء، كان لابد من الندم ومن الصراخ ومن الاستغفار وأنا على أعتاب الأمن والسكينة كان لابد من حب الله، أواه ما أجمل البوح ومع من؟ مع الله وفي شهر الله، هل نحتاج إلى أن يفوت الأوان أو يكاد! كيف أغفو مع سواد الليل رغم بياض النهار يذكرني بالكفن الأبيض الذي همست له يومًا، وهناك لقاء مع الله وما أدراك ما ذاك اللقاء! وهل يسمح لي الله بدخول جنته رغم بعض خطاياي؟! لست غبية أو معتوهة فلماذا تنظر إليَّ يا قارئي العزيز بازدراء حين اعترفت بما في داخلي, من منكم لم ينزلق ولم يتعثر ولم يخطأ؟ ولكن أين اعترافاتكم واستغفاركم؟ يا إلهي أنا مذنبة وأطلب عفوك فهل تجود علي!

أتخيل وكأني أنزل عن صهوة جوادي استعدادًا لعقاب الله لي وأنا واثبة الخطوات، يا إلهي وأنا أكتب الآن كأني أشم رائحة الجنة وكأني أرى عيون الحور مرت هنا، تناديني أمي غالية ثمة مفتاح ينتظرك هناك، بحق السماء هذا ما وصلني من إحساس، والله لا أبالغ أو أتاجر بالكلام أمام القراء.

يا كل الذين أزعجتهم وأغضبتهم وظلمتهم يومًا من صديقات وقريبات وزميلات، فأنا أريد أن أعتذر منكن وأنا في حضرة الله وقبل لقاء الله، هذه فرصتي المتاحة لي وأنا بين يدي الله، أدرك تمامًا حب الله ولكن من سلالم غير الموت سأصعد إلى الله بيقيني، ربما لا أخاف الموت ولا أراه إلا سعادة، ولكني بالتأكيد أخاف على نفسي من الحياة، أيها القارئ لحظة من فضلك! هلا قرأت مقالي كله، سبحانك يا رب! أحقًا أن البشر تهاب وتخجل من البشر دون خشية الله! ساعدوني أيها الأعزاء لأكتب كلمات صدقي وعلى سجادة صلاتي، أرجوكِ استيقظي لحظة يا نفس لأقول لك تصبحين على جنة عرضها السموات والأرض، يا إلهي لقد ضاع الكلام مني فقد مسحته دموعي، هذه هي أنا بل أناي الحاملة إليك كل الصدق والمليئة بخجل البوح.

لعلني استطردت قليلًا وأدرك أنني ثرثرت كثيرًا في أمور قد لا تعني بعضكم ولا تروق لبعضكم، ولم يكن شيئًا لافتًا للاهتمام وقوفي أمام ربي أطلب العفو في لحظة تجلي، هي لحظة تجلي وزاوية تأمل بمعالجة جوع التوبة والمغفرة، وفي لحظات الذات وغيبتها عن برزخها الموعود، لذلك أقول لكم ولنفسي عفوًا، وهنا أريد التوضيح أنني لا أكتب لمجرد التسلية، وأن حروفي سأحاسب عليها ولابد أن يكون لي دور في مجتمعي، الذي أحيا فيه لولا دموعي المنهمرة لما حملت قلمي، أرجو لمن يشرع في قراءة مقالي أن يكمله، لأنني بحاجة إلى المشاركة المعنوية، وأقسم لكم بالله أنني لا أكتب هذا من باب لفت الانتباه أو خلق هالة لنفسي، ولكني أشعر بالبكاء على نفسي ولا أقوى عليه، علي أن أبكي حتى أحرر وأصفي صفاء قلبي، فلحظة البكاء لحظة طهر ونظرة عميقة إلى الذات، للبكاء إحساس لا يدركه إلا الراسخون في الطهر، ويبدو أن الاعتراف غريب في نفوسنا، عفوًا أقصد في نفوس البعض، لابد من وجود توبة وندم ولو كانت الحياة الإنسانية أطول لكان عدد التائبين والنادمين والطيبين يفوق عدد المذنبين والخطاءين.

أشكر المارين على نصي، آملة الرد عليه بلغة تشبهه، لا أخفي أن إطلالتكم تحمل لي عذب النسيم.


error: المحتوي محمي