قلب يفيض بالمحبة والحنين

قبل قليل جاءني صوتها محملًا بالدفء والحنين، محملًا بالتبريكات بمناسبة إطلالة الشهر الفضيل، محملًا بالسلامات وأغلى التحيات للفنانين والفنانات، ولكل من عرفتهم ولمن تقاسمت معهم الملح والزاد.
صوتها متهجد بأمومة حنونة، ممتزج برائحة النيل، كلماتها اختلاجات عطف بين الالتياع والدمع وعذب الأيام الخوالي، أشاطرها قبسات الأمس، ويفيض صوتها بالأنس القادم من أرض الكنانة، من قاهرة المعز، مدينة الألف مئذنة، العابقة الآن بالأجواء الروحانية بشهر الله الفضيل، حيث مساجد الحسين والسيدة زينب والأزهر مجلجلات بالطاعات والصلوات والأذكار، وتزهو الموائد الرمضانية من لدن المحسنين، طقس آسر محمل بتراث السنين، صوتها الثمانيني عبق بهذه الأجواء، فهي الفنانة والإنسانة والمبدعة التي عكست تلك المشاهد عبر لوحاتها الفنية.

جاءتنا في عز شبابها مطلع عام 77م متنقلة بين “القديح، وحي القلعة في القطيف، وسيهات”، أفنت عمرها تدريسًا في المدارس الحكومية، وتعليمًا لبناتنا وأخواتنا المتعطشات لتعلم الفن، حفرت في الصخر، وأرست القواعد، وأسست الأرضيات، فأقامت الدورات تلو الدورات والورش والمعارض طوال ربع قرن، فتتلمذت على يديها الكثيرات من الفنانات اللاتي يشار لهن بالبنان على ساحتنا التشكيلية.

وعبر الأثير، تسمعني كلمات الشجن وجميل الذكريات والحنين لأرض عاشت في ربوعها 40 عامًا، فزهرة شبابها وربيع عمرها كان وردًا وزهرًا فواحًا امتزج مع هواء القطيف.
وتقديرًا لها ولمكانتها ولعطاءاتها الفنية، احتفلت بها في العام الماضي جماعة الفن التشكيلي بالقطيف في رحاب مركز الخدمة الاجتماعية، ضمن معرضها السنوي 17، وكانت هي ضيفة الشرف، وتم تكريمها خلال يومين متتاليين على خشبة مسرح المركز، بكلمات مكتوبة ومرتجلة لدورها وعظيم شأنها، وبعرض فيلم يحمل عنوان “طائر بين وطنين”، من إعداد كاتب السطور وإخراج سعيد الجيراني، والتصوير مشترك بين الاثنين، فيلم وثائقي يحكي مسيرتها الفنية بين موطنيها الأم (مصر) والثاني (السعودية/القطيف)، وقد استغرق العرض ساعة كاملة.
فيلم منوع يسرد مراحل طفولتها وصباها وزواجها وشيء من أسرتها، ويعرج على كفاحها نحو العلم والتعلم، وهو توثيق لها وأرشيف لبدايات فناناتنا المتميزات، يحمل في طياته الكثير من متغيرات الزمان والأوطان، هو خليط بين الخاص والعام، وقد أبكى وأفرح كل من شاهده.

وأثناء التكريم، قدمت الكثير من الهدايا من قبل طالباتها وبناتها متوجة بتحفة فنية، صب قالب لأناملها وهي ممسكة بالريشة، من تنفيذ الفنان زمان جاسم، تلك الأنامل التي لم تدخر جهدًا إلا قدمته، عطاء زاخر ومجد فني باهر منذ بداية الثمانينات حتى العام المنصرم، فهي المؤسس الفعلي للحركة التشكيلية النسائية في منطقتنا بدعم من لجنة التنمية الاجتماعية بالقطيف، تخرج على يديها الكثير من فناناتنا اللاتي أصبح لهن حضور مشرف ومتلألئ محليًا ودوليًا.

كان التكريم يليق بكِ يا أستاذة “سهير الجوهري”، يليق بتضحياتك، بجميل خصالك، برقتك بهدوئك، بصدقك، بحسن تفانيك، لك منا معزة وتقدير، وإذا كان للإيثار من أسياد فأنتِ سيدة الإيثار، فذاكرتنا الفنية وضاءة بجميل غرسك وحصادك ماثل للعيون، وزاهٍ في الوجدان.

وفي القلب مساحة ود وحزن لإنسانة ودعتنا قبل شهرين، ودعت بناتها بخروج نهائي بلا عودة قائلة بحرقة: “أشوف وشكم بخير في مصر، ما راح أرجع تاني”، سافرت عنا ولكن تركت بعضًا من روحها تحوم في سمائنا، إنسانة قلبها يفيض محبة خالصة لأهل وأرض القطيف.


error: المحتوي محمي