جاءت باكورة كتبه قبل ثلاثة أشهر ونيف، حلم طال انتظاره قرابة 10 سنوات ليرى جهده الاستثنائي بطباعة فاخرة، مزدانًا بالصور الملونة، مطروحًا في المكتبات، وأصبح متناولًا بين الناس.
كتاب يندرج ضمن أدب الرحلات، سيجد فيه القارئ عصارة تجربة معاشة من كاتب زار بلاد ما وراء النهر، ساح في ربوعها طوال 86 يومًا مقسمة لثلاث رحلات متتالية على مدى 3 سنوات ابتدأها مع كاتب السطور سنة 2012 وأردفها برفقة زوجته 2013 وختمها معها صيف 2014 .
وفي كل زيارة يكتشف شيئًا جديدًا، يسجله عبر الكلمة والصورة ساكنها ومتحركها، فنقل عبر كتابه الصادر حديثًا كل انطباعاته ومرئياته وأحاسيسه المترعة ومشاعره الفياضة نحو بلاد فتنته حبًا واندهاشًا، فهي الغانية الآسرة التي هام فيها الشعراء والفنانون والروائيون والباحثون عشقًا وغرامًا، ومن لم يعشق مدنها الأسطورية؟ حيث العين تقع في حبها من أول نظرة، ذاب العشاق في روابيها ودروبها وأنهارها وسفوحها وجبالها، خلبت كل ذي قريحة أدبية وذائقة بصرية زهوًا بشموخ مبانيها العظيمة وقصورها الباذخة، ودور العبادة ومدارس العلم المتلألئة بالآزورد وثراء الفكر، في رحابهما تفتق الحرف بتراث ضخم يعد فخرًا على جبين الأمة، وأزهر اللون أشكالًا وظلًا أغرى العيون وأسر الأفئدة، أرض باذخة سحرت الغرباء والأجناس من ملل ونحل وشعوب وقبائل وفتنت عابري السبيل وطاب لهم المقام وتداخل كثير منهم ديموغرافيًا وتأصّلوا في جذورها وشربوا من نبع نهريها وتصاهروا حتى نسوا من أين أتوا! تولد منهم منجز خلاسي على كافة المستويات البشرية والمادية، أرض جاذبة للكفاءات وللفرسان والقواد والصناع والمهرة، فدان لها كل شيء وتغنت بمجد وراء مجد، ازدهرت تجارتها وتألقت بين الأمم، عبر طرقها العابرة لقوافل الشرق والغرب، حيث مدنها العريقة همزة وصل ومرتع القاصدين، هي الفردوس الساحر والجاذب بما حوت، تخلب الأبصار وتأسر الأفئدة، لها من الحكايات والأساطير والكنوز والطقوس والأمجاد، والفتوحات والهزائم والانتصارات والحب والعشق والغرام، ثراء ممتد لآلاف السنين، تتكحل العيون من فنونها بروعة المنمنمات وعراقة السجاد وحياكة الأقمشة النفيسة، وفنون التوريق والتزيين والحفر والنقش وصناعة الفخار والخزف وصياغة الفضة والذهب، فنون باهرة متوارثة لم تزل الأنامل تبدعها جودة واتقانًا، وصروح معمارية تنضح فنًا من كل فن مسجلة فخرًا على لائحة التراث العالمي (اليونسكو)، ومدارسها منارات سامقات إشعاعًا ونورًا، أضاءت العقول والنفوس، تقاطر عليها طلاب العلم من كل فج عميق، ونهلوا من فيض علمائها خير معين، هي أرض الدهاء والطمع والإغراء والغواية، هي عروس لا تشيخ، كانت مرتعًا للغزاة من الإسكندر الأكبر إلى جنكيز خان المدمر إلى الأمير تيمورلنك الفارس المغوار الذي جعلها منارة في كل شيء وجعلها ذات هيبة بين الأمم، مرورًا بالسامانيين والشيبانيين والكرخانيين وانتهاءً بالروس والبلاشفة، كل ترك بصمة وملحمة ومنزلة ومكانة، دوزنها المؤلف بأسلوبه المشوق إسهابًا واقتضابًا، متقفيًا آثارهم من فضاءات الأمكنة، أحضرهم من بطون التاريخ براعة من يراع في عين كل مشهد!.
معراج قلم جاب البلاد طولًا وعرضًا سالكًا المتعرج والمنحدر والسفح والجبل ناقشًا بالحرف هبة من كلام على الجدران الصامتة، ناطقًا باستعارات على تخوم الطلل صحوة من حياة، أسطر وجمل سردية تتراوح بين السهل الممتنع والوثيقة التاريخية، والصور البلاغية، تدوينات، وتعبيرات واستشهادات متشظية فضاء ومساحة ومسافة بتوهان بين الأسماء والأمكنة والأعلام والشخوص المؤثرة علمًا وصنعة وحظوة وحرفة وعقد وربط، وليمة عامرة من المعلومات مما لذا وطاب، أحضرها المؤلف من المراجع والمرويات، ومن ذات المواقع كشاهد حي بمرآة عينيه وبقياسه الفني التعبيري، راسمًا خريطة البلاد خطوة بخطوة، حافرًا ذاكرة أرضها شبرًا شبرًا، منقبًا كنوزها الثمينة ماضيا وحاضرًا، ومتقصيًا كل أثر وحجر وظل شجر وموطئ قدم، وقدم إنسانها برؤية أنثروبولوجية، بعضها مستوحاة من اندماجه المباشر مع العوائل، الذين ضيّفوه معزة وفخرًا مرات عديدة، استأنس لأرواحهم؛ المرحة والهادئة والمزدانة أدبًا وخلقًا، واستسقى من أحاديثهم الشفيفة فضاء آخر للكلمة، لما وراء المعنى، جرس الصوت وما يخفيه.
إنهم يهمسون الكلام بطلاوة، ليس من طبعهم النزق في الكلام وإنما الكلام لذة للسامع، وشوشة في القلب، وحسب وصفهم “الكلمات المنطوقة بنية حسنة، هي أكثر من ألذ الفاكهة”.
كاتبنا لبى كثيرًا من الدعوات واعتبروه واحدًا من أفراد كل أسرة حل بفناء منزلها، تذوّق مطبخهم وعدد صنوف طعامهم، كان يعلم مسبقًا أنهم شعب مضياف لحد المبالغة في ديباجة الوصف، معايشته عن قرب عززت مفاهيم الكرم بل وأكثر مما كان يتصور، فأفرد الصفحات لهذا التقليد المتوارث بشيء من التبجيل والامتنان، إنها سجية شعبية تعتبر في نظرهم أعلى مرتبة من الشجاعة، وقليلًا ما يتصف بها شعب آخر نحو ضيافة السواح الغرباء، طبائع فخر لم تغيرها المتحولات ولم تؤثر عليها تقلبات الزمن، لامس معاملاتهم الحسنة بشكل يومي في الشوارع والأزقة والأسواق والحوانيت والمطاعم والمقاهي والمتنزهات والقطارات وسيارات الأجرة، قابل مجموعات متفرقة وشرائح متنوعة لكن أخلاقهم نفسها واحدة موحدة، وجوههم الجميلة السمحة تفرض حضورًا طيبًا لكل من يراها وتنتفي عن الغريب وحشة السفر، كاتبنا سجّل كل ما وقعت عليه عيناه ونقل كل شيء أحسه بقلبه واستشعره ببصيرته، وأدركه بعقله، فجاء كتابه تفصيليًا جامعًا شاملًا نابضًا بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية والذوقية الرفيعة لشعب يتسم بنبل الأخلاق، ونلمح بين سطور الكاتب ثمة إشارات تهمس محبة بعتب لمن ضيّع بعضًا من الأخلاق في وطنه فليذهب لزيارتهم فسوف يجد ضالته المفقودة!
الكاتب دلّنا على بلد يثري الخلق والذائقة، لمن يحسن كيف يتطلع ويتحسس ويرى؟