مسافر زاده الخيال 1-4

يأخذ نفسًا عميقًا ويترنم، يتهادى صوته بأجمل الألحان وعذب النغم، يردد الأشعار والمواويل وتواشيح الشجن، يشنف آذاننا منذ الصبا ولم يزل، فكلما سرنا معه أو ضمنا مجلس لأحد الأصدقاء، يهدينا مقاطع من الطرب الأصيل المفعم بالرقي وبزمان يا فن، يتجلى بالآهات وينشد ملء رئتيه ترنيمة لا تمل “مسافر زاده الخيال، والسحر والعطر والظلال.. ظمآن والكأس في يديه والحب والفن والجمال…”.

يسردها على مسامعنا، ويضبط صوته بمقاربة اللحن ترنمًا بموسيقار الأجيال، أغنية يبثها مداراة للصمت مرضاة للوجد وعين الرضا، يبثها ليريحنا من خوض الأحاديث المترامية بأثقال الثرثرة والجدل، يعيدها مرات ومرات بأنفاس “مقام الكرد” يتجلى بها شدوًا كنشيد روحي.

كنا نحسبه يدندن من أجل تسلية أو ترويح نفس، ومع مرور الوقت أدركنا مقصده، كان يتمثل تلك الأغنية صورًا مرئية وارتحالًا حقيقيًا إلى أرض الله الواسعة.

هو عاشق للسفر بكل ما تعنيه تلك الكلمات من معنى، سفرًا للثقافة وسحر الفن، وخيال الأمكنة التي لم يرتدها بعد، شغف باكتشاف حدائق الله المعلقة بالحب والظلال، وملاقاة نظراء الخلق بيد ممدودة كل البسط، لمصافحة المؤتلف والمختلف، بإفشاء التعارف سلامًا في كل موطن، يسافر للتاريخ وما حوى من كنوز حضارية ومعالم مقدسة وآثار خالدة.

لم يكن السفر عنده استجمامًا أو شمة هواء، أو تمظهرًا أمام الغير، لا يعنيه السفر السياحي العابر، ولا الاستعراضي من أجل التقاط صور تذكارية ونثرها أمام الملأ، إنما السفر بوصفه رحلة حياة، اكتشاف دنيا ومعالم جديدة وارتياد آفاق بعيدة عن ذهنية العوام، سفر يعيشه بكل جوارحه وحواسه، ويتنفسه هواءً معطرًا ويتلبسه نفسًا ووجدانًا، ويسكنه وطنًا في القلب نابضًا بالترحال، يسري في دمائه سعي الرحالة العظام للأسفار، سعي لا يرتوي منه، لأنه على الدوام ظمآن للسفر.

حينما يختار بلدًا ما ويعقد العزم على التوجه نحوه، يرتحل روحًا قبل أن يصل إليه جسدًا، يجند نفسه كمقاتل في ميدان البحث، يخوض غمار التنقيب ويصطاد الشاردة والواردة، ويستجمع ما طاب له من معلومات ومعارف، يلف المكتبات العامة والخاصة لعله يظفر بعنوان يلبي طموحه، أو إشارة منزوية بين دفتي كتاب، يتفحص الاستطلاعات السياحية والمجلات الشهرية والتحقيقات الدورية، من أجل إضافة أو إضاءة لغنائم معركة البحث، ويستثمر معرفته الواسعة باللغة الإنجليزية باطلاعات دؤوبة على المواقع والمدونات، يقلب صفحات التاريخ، ويوغل تخيلًا بعبور التضاريس ويستجلي الطقس والمناخ، يرتب الخيارات، يضع البدائل ويتخير أفضل المواسم، ويراقب صرف العملة وقيمة الشراء، يدقق في أشياء لا تخطر على البال، يسجل كل ما يتوق إليه، ويضع خرائط مرسومة يحدد فيها مسارات تحركه بقياس الزمن وبعد المسافات بين الأمكنة المعلومة والنائية، وإذا استعصى عليه شيء يخاطب سفراء الدول، وحتى يكون مطمئن البال يطلب موعدًا لمقابلتهم وجهًا لوجه، ليستوضح منهم الأمور النظامية والقوانين المتبعة، ليكون على بصيرة وبينة بعيدًا عن التخمينات والمفاجآت غير المحسوبة، وفي غمار الرصد والبحث يقيم تواصلًا أثيريًا مع الفنانين والأدباء والكتاب البارزين ويعقد تبادلات حوارية أملًا بلقياهم في موطنهم، ليحقق إشباعًا شخصيًا تذكاريًا وأهدافًا تنويرية مرتجاة، وليقرأ بلدهم من منظار رؤيتهم البصرية وذائقتهم الفنية.

إن حسه السفري متعدد الأقطاب والأوجه ويتجاوز فوائد السفر الخمس، كل سفرة يخوضها يستثمرها بأسفار عدة، أسفار في سفرة، ضاربًا رؤيته في العمق والطول والعرض لما وراء المنظور وأبعد من رؤية العين العادية، لديه بصيرة ثاقبة منذورة لعوالم الأسفار بقيمها المعنوية والمادية والإنسانية والفنية والتاريخية والحضارية، فكل رحلة ينوي القيام بها يتحضر لها شهورًا أو سنة وأحيانًا أكثر، إذ يعتبر كل سفرة كأنها رحلة عمر.

ويوم أن كان عمره في العشرينات كان حلمه أن يطوف العالم بتأثير من كتاب “أنيس منصور حول العالم في 200 يوم”، لكن لضيق الحال سافر إلى عوالم الأدب الكلاسيكي والواقعي والرومانتيكي، وخصوصًا منجز “فيكتور هوجو”، وتحديدًا رواية “البؤساء”، وبتأثير منها كتب رواية اجتماعية في منتصف السبعينات الميلادية لم تكتمل نهايتها بالصورة التي يرتضيها ثم توقف، ولو قيض له استكمالها وطباعتها منذ ذلك الوقت لسجل سبقًا في منطقتنا قبل غيره، ألف قصصًا قصيرة وتركها حبيسة الأدراج، أقام معرضًا تشكيليًا وحيدًا على صالة نادي النور بسنابس مطلع 92م، معرض يعتبر علامة في مسيرته الفنية الطويلة، وبعد الحماس المتقد للألوان واللوحات، فجأة هجر الفرشاة وأمسك بالقلم ليكتب عن رحلاته وأسفاره.


error: المحتوي محمي